يخشى المتابعون أن تنتهي الضجة التي يثيرها لبنان اليوم، في ملف عودة النازحين السوريين، إلى لا شيء. والسبب هو أنّ اللاعبين الدوليين الكبار والإقليميين في هذا الملف لا يريدون للعودة أن تتم في هذه اللحظة على الأقل، ولكلّ أسبابه وأهدافه. فهل قدر لبنان أن يقف عاجزاً في واحد من أخطر الملفات التي تتحكم به وجودياً؟

مرة أخرى، أعلن لبنان أنّ هناك نيات خبيثة لدى القوى الدولية، في ملف النازحين السوريين. وكان واضحاً تأكيد المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم أن المجتمع الدولي لا يريد إعادة هؤلاء إلى بلادهم، وأن دولاً كبرى تعرقل عودتهم بحجج مختلفة، والدليل أنه قدّم عرضاً لتأمين عودة آمنة لهم، بعدما حصل على ضمان القيادة السورية، ولكن تم رفض العرض.

 

هذا الاتجاه الدولي في التعاطي مع أزمة النازحين السوريين يكشف لماذا تصرّ الأمم المتحدة، من خلال المفوضية العليا للنازحين وسائر منظماتها وهيئاتها المعنية، على إصدار توصياتها للنازحين بعدم العودة وتحذيرهم من مخاطرها الأمنية.

 

وعلى مدى السنوات الأربع الأخيرة، حاول لبنان تنفيذ خطوات صغيرة لإطلاق مسار العودة، وعاد فعلاً جزء بسيط من النازحين، على دفعات، لكن هذا المسار تعثّر نتيجة الضغوط الدولية، إضافة إلى مواقف القوى الداخلية التي كانت تتحكم بالوزارة المعنية آنذاك، إذ جرت إشاعة معلومات مفادها أنّ بعض العائدين من لبنان تعرضوا للاستهداف أمنياً في الداخل السوري.

 

ولكن، لا أحد يفسّر كيف يتجاوز كثير من النازحين كل الاعتبارات الأمنية ويزورون سوريا بنحو دائم ثم يعودون إلى لبنان حاملين صفة نازحين. وثمة اقتناع لدى المعنيين بالملف بأنّ كثيراً من هؤلاء يفضّلون استمرار وضعيتهم الحالية لأنها تتكفّل لهم بالحصول على مساعدات من منظمات وهيئات دولية مختلفة. وفي مراحل معينة، ساهمت جهات لبنانية في تشجيع النازحين على الاستقرار في لبنان بناء على حسابات معينة ومن منطلقات مختلفة.

 

اليوم، يبدو وكأنّ تماسكاً داخلياً حول الملف قد تبلور، إذ أجمعَ عدد من أركان السلطة على التلويح بخطوات عملانية سيتخذها لبنان للتخلص من عبء النازحين الذي يعمّق انهياره. ولكن، من الصعب فرز المواقف الحقيقية عن المناورات، أو الفرز بين رغبة البعض فعلاً في حل أزمة النزوح لأهداف وطنية ورغبة البعض الآخر في الضغط على المجتمع الدولي لتحصيل الأموال تحت عنوان النازحين. ولكن، من دون الحكم على النيات، للمرة الأولى تتقاطَع المواقف بين قوى السلطة سياسياً وطائفياً حول هذا الملف.

 

وعلى مدى 11 عاماً، كان هاجس القوى الدولية هو فقط منع تدفّق النازحين إلى أوروبا. وفي مقابل ذلك، تم تخصيص المؤتمرات لدفع بعض المليارات من الدولارات كرشاوى إلى الدول المضيفة كي تقبل بتثبيت النازحين فيها. ولا شك في أنّ هذه المليارات مُغرية بالنسبة إلى البعض في الدول المضيفة. لكن حصة كل دولة من المساعدات بقيت مرهونة بما تملكه من أوراق قوة. فقد برع الأتراك في استثمار أزمة النزوح، وبقيت حصة لبنان من الدعم هي الأدنى.

 

واليوم، بات النازحون الأوكرانيون أولوية القارة الأوروبية، فيما السوريون باتوا في خلفية الحدث. بل إنّ الملف السوري برمّته وضِع في ثلاجة الانتظار. وكان لافتا قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بترتيب العلاقة مجددا مع أنقرة وطهران. وبديهي أن يشمل ذلك انتظام العلاقات بين القوى الثلاث على الرقعة السورية.

 

في هذا الخضم، ثمة من يسأل: ما مصلحة القوى الدولية في التهرب من استحقاق إعادة النازحين السوريين، ولماذا تريد هذه القوى إبقاءهم في بلدان النزوح، وإلى متى تريدهم أن يبقوا هناك، ولماذا لا تعمل لتسهيل عودتهم إلى بلدهم ما دامت تعيش هواجس تدفقهم عبر المتوسط إلى أوروبا؟

 

الجواب يتعلق خصوصاً بالتسوية السياسية في سوريا والنظرة إلى مستقبل هذا البلد. فالقوى الدولية تفضّل بقاء النازحين ورقة يمكن استخدامها من خارج سوريا للضغط على نظام الرئيس بشار الأسد أو لمساومته أو لترجيح تسوية معينة، تماما كملف إعادة الإعمار في سوريا. وبديهي أنّ النظام من جهته يريد إعادة النازحين تحت سقف شروطه ومصالحه.

 

وفي الوقت عينه، يشكل النازحون ورقة ضغط تمارسه القوى الدولية على الدول المضيفة، بحيث يمكن استخدامهم لدفع حكومات هذه الدول للسير في خيارات سياسية معينة، ولبنان المُنهار اقتصاديا وماليا واحد منها. فوجود نحو مليون ونصف مليون نازح سوري في لبنان سيكون عاملا أساسيا في تحديد خياراته المستقبلية الكبرى.

 

والهواجس في ملف النزوح السوري تشكل استمرارا للهواجس اللبنانية القديمة في ملف النازحين الفلسطينيين. فعلى مدى أكثر من نصف قرن، تنامى لدى اللبنانيين اقتناع بأن القوى الدولية تعمل لتوطين للفلسطينيين، بدفع إسرائيلي، لمحو فكرة «حق العودة» وتصفية القضية الفلسطينية والتخلص من أثقال الملف الفلسطيني، على حساب شعوب عربية أخرى، وفي مقدمها الشعب اللبناني.

 

وثمة من يخشى أن يكون هناك من يخطّط لاستمرار التخبط في أزمة النازحين، السوريين والفلسطينيين، ليأتي العلاج ضمن رؤية واحدة لملف النزوح.

 

ولذلك، في الانتظار، سيتعب اللبنانيون للتخفيف من أعباء أزمة النازحين، وسيحاولون فتح الأقنية لهذه الغاية مع الجميع، بدءاً بدمشق. لكن المساومات الإقليمية والدولية ستعقّد الأمور باستمرار. وعلى الأرجح، إنّ لحظة الحل في ملف النازحين ما زالت متأخرة. ولذلك، ثمة أكلاف كبيرة سيدفعها النازحون واللبنانيون على حد سواء.