بعد مرور شهر على الانتخابات النيابية، وقف البطريرك الراعي، على منبر بكركي، ليدعو اللبنانيين إلى انتفاضة شعبية مصححة للوصول إلى تغيير وطني وخطة تعاف لمصلحة البلد . يتقاطع كلام الراعي مع كلام كثير من النشطاء في الثورة، في ما يتعلّق بضرورة تصحيح المسار، ولا سيما في ظل وجود عتب كبير وملاحظات كثيرة على أداء بعض نواب الثورة، وسط اتصالات ولقاءات تُعقَد بين نشطاء أساسيين يعتبرون أنه لا بد من مواكبة مرحلة نهاية العهد واستمرار الانهيار بتحركات شعبية ضاغطة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بشكل سريع ولفرض البحث عن حلول مع المجتمع الدولي للأزمة الماليّة الخانقة ولوقف مسار الانهيار. ولكن الخطاب السياسي لا زال محكوماً بتفحص ماهية الأكثرية وطبيعة الأقلية البرلمانية، وكأنه الهم الوحيد عند المواطن المسكين الذي يئن من ضربات جلاّديه وظلمهم وقد اعتقد أن صناديق الاقتراع هي الطريق الوحيد للنجاة والخروج من جحيم الغلاء والاستشفاء والمحروقات والكهرباء والتعليم والسلسلة تطول وتطول، فيما جنى العمر عالق في عنق زجاجة المصارف وقد أدخلوه في دوامة توزيع الخسائر بين مصرف لبنان والمصارف والدولة، ليكتشف في النهاية أن أي تسوية أو علاج للأزمة المالية سيتمّ على حسابه . من الواضح أن البطريرك الراعي يدعو إلى التكاتف فيما بينها وبين القوى السيادية. ويبدو أك ما أفرزته الانتخابات لم يكن كافياً بالنسبة إلى الراعي، لايجاد حل للانهيار والنهوض منه . أي تحرك شعبي قابل للانفجار في المرحلة المقبلة سيكون هدفه الضغط على القوى التي وصفها الراعي بقوى الأمر الواقع. وسيكون من شأنه فرض قواعد جديدة فيه اختيار الرئيس وفي وضع لبنان على سكة الاهتمام الدولي . تكتسب مواقف الراعي في هذه المرحلة أهمية استثنائية نظراً إلى الظروف التي يمر بها لبنان، ولانه يتخذ مواقف متقدّمة لم يحِد عنها منذ فترة طويلة . البطريرك سيكثف من تحركاته من الآن حتى موعد الانتخابات الرئاسية للوصول إلى صيغة حل تكرِس مفهوم أن الرئيس القوي يكون قوياً بعلاقاته مع مختلف المكوّنات الداخلية وفي علاقاته الدولية انطوت مواقف الراعي على أهميّة استثنائية لدى اندلاع ثورة 17 تشرين، وبعدها. وهي مواقف تتعارض كلها مع توجهات قوى الامر الواقع، وصولاً إلى ما بعد تفجير مرفأ بيروت وطرح معادلة الحياد وعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان . لا يبدو أن الراعي قد تراجع عن مواقفه أو مشروعه الواضح، إذ يستمر بالتمسك بالشروط التي يراها مناسبة لخروج لبنان من أزماته، وهي تتجلى بضرورة الاستمرار بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي خاص بلبنان لحل مختلف الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية . تكريس مبدأ حياد لبنان باعتراف دولي ورعاية واضحة، فلا يعود ساحة تجاذب ولا محسوباً على أحد المحاور. الحفاظ على العلاقات اللبنانية مع المجتمع الدولي والدول العربية، ولا سيما دول الخليج العربي الالتزام بتطبيق اتفاق الطائف كاملاً بدلاً من التطبيق الاستنسابي له، وبالتالي الحرص على المناصفة والتوازن لان لبنان قام على التنوّع وليس على العدد، ولم يكن يومًا شركة مساهمة توزع الأرباح على المساهمين وفقًا لأنصبتهم، كل أهميته أنه بات منصةً للتفاعل الحضاري وللقدرة على النجاح وقوة الحضور في المحافل العربية والدولية، وأن صيغة لبنان الفريدة جعلت منه مثالًا يُحتذى في كيفية انصهار مكوّناته في بوتقة واحدة تشع في أرجاء المعمورة، ونجح. ولعل أهم ما قيل في هذا المجال ما جاء على لسان البابا القديس يوحنا بولس الثاني لبنان هو أكثر من بلد إنه رسالة حرية وعيش مشترك للشرق والغرب . ختاماً الصراعات السياسية والعسكرية منذ قيام دولة لبنان الكبير لم تستطع النيل منه، إلى أن استحضرت الطوائف إلى الصراع فأغرقته في حروبٍ لم تنتج إلا مئات الآلاف من الضحايا فقتل من قتل وجرح من جرِح، وفقد من فقد وما زال لغاية اليوم مصيره مجهول، وأصيب العديد بإعاقات تدمي القلوب، وخُرب البلد ولم تضع الحرب أوزارها إلا عندما اقتنع الجميع بأن الوطن الواحد يحتضن كل الطوائف بعيدًا عن لعبة الأرقام والأعداد ومشاريع التفتيت . بعد ربع قرن من نهاية الحرب في لبنان وجد اللبنانيون أنفسهم أمام حروب صغيرة فاقت أضرارها تلك التي خلّفتها الحرب الكبيرة، وعادت الآلام والمخاوف تقض مضاجعهم وتعيد إلى نفوسهم القلق على المصير صرخةٌ من الأعماق يُطلقها كل لبناني إلى كل من في السلطة إلى أي طرف أو طائفة أو مذهب أو حزبٍ انتمى لتذكيرهم أن المطلوب الإقلاع عن سياسة المكابرة ، وليهتمّوا فقط بسبل تأمين عيش الناس بكرامة، حتى لا يحسوا أنفسهم رعايا في الجمهورية الضائعة