إشارتان واضحتان حول ترتيب خارجي لإيصال نجيب ميقاتي الى رئاسة الحكومة وتأمين المناخ الاقليمي الملائم لولادة الحكومة:

ـ الإشارة الاولى جاءت من ميقاتي نفسه، الذي تحدث عن ضمانات خارجية لولادة الحكومة المطلوبة، على الرغم من انّ المعروف عن ميقاتي أنّه صاحب اسلوب متحفظ ولكنه هذه المرة جاهر، والاستنتاج واضح.


ـ الإشارة الثانية جاءت هذه المرة من الفريق الذي يمتلك التأثير الاقوى على الساحة اللبنانية والمقصود هنا «حزب الله». فعلى الرغم من التقييم السلبي الذي كان أبداه سابقاً حول تسمية ميقاتي، فهو لم يكتف بإزالة تحفّظه، بل انّه ذهب ابعد من ذلك وقرّر تسميته، مع العلم أنّه كان اكتفى بعدم التسمية خلال الاستشارات الماضية والتي اتت بالرئيس سعد الحريري.

 

وفي الكواليس كثير من التفاصيل حول استياء رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل من موقف «حزب الله» المستجد، خصوصاً وأنّه كان تبلّغ سابقاً من «حزب الله» ان خيار ميقاتي ليس جدّياً.

 

ما من شك أنّ ثمة قوة دفع خارجية كبيرة تولّتها فرنسا بدعم كامل من الإدارة الاميركية، لإزالة العوائق امام انتاج حكومة في لبنان، كون الوضع اصبح كارثياً وبات يهدّد بانفجار اجتماعي كبير، ستؤدي شظاياه الى تعقيد الوضع في الشرق الاوسط، خصوصاً لجهة المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران حول الملف النووي.

 

تكفي الاشارة هنا الى الصاروخين اللذين أُطلقا أخيراً ومن دون مقدّمات من جنوب لبنان في اتجاه شمال اسرائيل.

 


هذه المعطيات تدفع الى الاستنتاج أنّ ثمة تفاهمات سريعة تمّ ترتيبها بهدف منع لبنان من الانفجار، من خلال ولادة حكومة تعمل على وقف المسار الانحداري والتقاط الأنفاس والبدء بتركيز أسس التفاوض مع صندوق النقد الدولي ووضع خريطة طريق للاصلاحات المطلوبة، واخيراً وليس آخراً التحضير والإشراف على الانتخابات النيابية المقبلة.

 

لكن في المقابل، ظهرت ردود الفعل السلبية من جانب السعودية، ما يوحي أنّها رسالة اعتراض على عدم اشراكها في التسوية التي تولتها فرنسا.

 

كذلك، ولو من جانب آخر، بدا «التيار الوطني الحر» متفاجئاً بما حصل، وعلى اساس انّ ما حصل جاء على حساب الأهداف السياسية التي كان يتوخاها من الحكومة. فهو كان يهدف الى وصول شخصية «حليفة» كلياً له، يستطيع معها ان يتحكّم بالاستحقاقات الكبيرة التي من المفترض ان تشهدها السنة الاخيرة من ولاية الرئيس ميشال عون.

 

«صدمة» باسيل انعكست سلوكاً سياسياً متخبّطاً، مرة بالتلويح بتسمية نواف سلام الذي ابدى رفضه استخدام اسمه في سوق المزايدات السياسية، ومرة اخرى بتوجيه انتقادات قاسية الى «حزب الله» في الكواليس المغلقة. لكن الحزب يدرك انّ هامش «التيار الوطني الحر» لم يعد واسعاً، خصوصاً وانّ الانتخابات النيابية لم تعد بعيدة، وانّ خشبة الإنقاذ الوحيدة لهذا التيار هو «حزب الله» الذي لديه القدرة والنية ايضاً لمنحه عدداً لا بأس به من المقاعد والاصوات كتعويض، ولو جزئي، عن التراجع الشعبي الكبير الذي اصابه. الّا انّ الترتيبات الخارجية التي حصلت لم تصل الى حدود اعتبارها تسوية. فالمطلوب الآن «تنفيس» الاحتقان الهائل الذي يسود الساحة اللبنانية، وضخ بعض الاوكسيجين في الرئة الاقتصادية اللبنانية، في انتظار حصول التسويات الاقليمية الكبرى، وعندها سيأتي موعد التسوية اللبنانية الفعلية بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية المقبلة.

 


 

ففي الاقليم حركة كبيرة انسجاماً مع الاستراتيجية الاميركية لتنظيم الشرق الاوسط، في اطار سياسة احتواء التمدّد الصيني. وواشنطن أنجزت تفاهماً للتعاون مع اوروبا بزعامة فرنسا، فيما باشرت الصين خطة التغلغل في اوروبا من خلال تقرّبها من اليونان وامتلاك حصّة في احد اكبر موانئها. واسرائيل المتوجسّة من الاتفاق الاميركي ـ الايراني على اساس انّه سيؤثر على مصالحها الامنية، خصوصاً في سوريا ولبنان، تسعى الى توظيف الدور الفرنسي لمصلحتها. لذلك مثلاً، سعى وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس، والذي بدأ زيارة لباريس أمس، الى اقناع نظيرته الفرنسية فلورنس بارلي بالمساعدة في حماية المصالح الامنية الاسرائيلية. ذلك انّ اسرائيل تعرف أهمية العلاقة الديبلوماسية المباشرة التي تؤمّنها باريس مع طهران، وكذلك مع «حزب الله» في لبنان.

 

وبالتالي، فإنّ الترتيبات التي أنجزتها فرنسا لتأمين ولادة حكومية بهدف تهدئة ولو مرحلية للساحة اللبنانية، ستشكّل فرصة ذهبية للتحضير للتسوية الكبرى بالتزامن مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

 

وللمفارقة، هي مرحلة تشبه الى حدٍ بعيد مرحلة ما بعد العام 1990، ولكن مع فارق اساسي وهو معارضة المجتمع الدولي للذهاب الى جمهورية ثالثة في مقابل الاكتفاء بتعديلات على بعض الفجوات في الدستور الحالي، أي بمعنى اوضح، «دوحة» جديدة وليس «طائفاً» جديداً، علماً أنّ القاسم المشترك بين المرحلتين هو العماد ميشال عون. في انتظار ذلك، من المفترض ان تملأ حكومة ميقاتي مرحلة الوقت الضائع. أولاً، من خلال البدء بوضع ركائز الورشة الاصلاحية التي ستحصل بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وثانياً بالحدّ من سرعة الانهيارات الحياتية التي تكاد تمزّق المجتمع اللبناني، لجهة الكهرباء والمشتقات الفطية والاستشفاء والسلع الغذائية، وثالثاً بالتحضير للانتخابات النيابية التي من المفترض ان تشهد تبدّلات اساسية في المشهد اللبناني، ولكن وفق ايقاع مدروس ويمهّد للتسوية الكبرى المنتظرة.

 


 

أما بعد، فمن المفترض إعادة تركيب السلطة اللبنانية وفق أسس تحاكي التسويات والتطورات التي ستشهدها المنطقة. وبالتالي، فإنّ صورة رئيس لجمهورية القادم لا بدّ ان تكون ترجمة للدور الذي سينتظره، لبنان انسجاماً مع خريطة النفوذ السياسية الجديدة. وهنالك نماذج ثلاثة للاحتمالات المتوقعة:

1- رئيس آتٍ من المؤسسة العسكرية بهدف اعادة الانتظام للبلد، ومواكبة مشاريع تثبيت الحدود اللبنانية بحراً وبراً وجواً، خصوصاً وأنّ شروط التجديد لقوات «اليونيفيل» ستكون مختلفة جذرياً في السنة المقبلة.

2- أو رئيس بمواصفات سياسية تأتي كترجمة للتوازنات السياسية خصوصاً في سوريا.

3- او رئيس يتولّى اعادة اعمار لبنان وانقاذ اقتصاده، شرط ان يتمتع بعلاقات دولية قوية خصوصاً مع اوروبا ودول الخليج وايران، ومؤهل للاستعانة بدور حازم للجيش في تثبيت الامن. اي رئيس يشبه الدور الذي لعبه الرئيس رفيق الحريري عندما وصل في العام 1992 ولو أنّ شروطه مختلفة.

 

قد يكون من المبكر الحسم في اي من الخيارات منذ الآن، لكن الأكيد انّ المرحلة الحالية يجب ان تشهد احاطة افضل للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تكاد تسبق التطورات الاقليمية وتفجّر لبنان قبل الوصول الى مرحلة التسويات.