لن يرفّ جفن للرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل إن تخلّى الرئيس سعد الحريري عن التكليف واعتذر. بل على العكس، قد يطلقان المفرقعات النارية ابتهاجاً، ويتسابقان لتقديم الشكر إليه على هذه الخدمة الجليلة التي يقدمها لهما.

 

 

 

 

يوم اعتذار الحريري هو يوم المُنى لعون وجبران؛ حتى أنّهما لا يريدان له أن يتجشّم عناء الصعود إلى بعبدا وتقديم كتاب اعتذاره الى رئيس الجمهورية، المهمّ أن ينطق بهذه الكلمة سواء من بيت الوسط أو من أي مكان آخر، والباقي عليهما. لا ينتظران منه سوى أن يقول: «أنا اعتذر عن عدم تشكيل الحكومة» حتى «يتكمّشا» بما يقوله ليُعلنا فوراً «طار الحريري وبقي جبران»، ويقيما الأفراح والليالي الملاح احتفالاً بهذا الانتصار العظيم.

 

هذه الحقيقة يدركها الرئيس المكلف قبل غيره، خصوصاً أنّه على ثقة منذ تسميته في الاستشارات النيابية الملزمة قبل نحو 9 أشهر، بأنّ تكليفه تشكيل الحكومة كان مرّاً على عون وجبران، فهما خسرا جولة الاستشارات، وأُحبطا ممّن سمّى الحريري، و»زعلا» من «حزب الله» لأنهما اعتبرا أنّه خذلهما، صحيح أنّه سجّل موقفاً في عدم تسميته في الإستشارات، لكنّهما كانا ينتظران من الحزب أن يقرن عدم تسميته الحريري بقطع الطريق عليه، لا أن يشكّل الدّاعم الاساس للرئيس نبيه بري في تمسّكه بسعد الحريري في رئاسة الحكومة.

 

لم يسلّم عون وجبران بخسارة جولة الإستشارات، ومنذ ذلك الحين لم يدّخرا وسيلة إلّا واستخدماها لانتزاع ورقة التكليف من يد الرئيس المكلّف ومنحها لأيّ كان إلّا الحريري.

 

الحريري تجاوب مع المبادرة الفرنسية، والتزم مبادرة الرئيس بري وما يزال، وانسجاماً مع مقتضياتها ذهب إلى الحد الأقصى في تقديم التسهيلات، لكن الرئيس والصّهر ظلّا يقولان إن الحريري يعطل تأليف الحكومة ويريد فرض آلية جديدة في تأليف الحكومات تتجاوز رئيس الجمهورية وحقه في تسمية الوزراء.

 

رئيس الجمهورية يقول إنّه مع أن يشكّل الحريري الحكومة، لكنّه يقول في الوقت نفسه، في السرّ والعلن، إنّ الرئيس المكلّف غير قادر على التشكيل.

 

التيار الوطني الحرّ، أو بمعنى أدقّ، جبران، يقدّم نفسه من فوق الطاولة حملاً وديعاً، راكضاً من موقع المتعفّف عن المشاركة في الحكومة، لتسهيل تشكيلها، ولا يترك مناسبة إلّا ويُظهر فيها حرصه على أن تكون هذه الحكومة برئاسة الحريري. امّا من تحت الطاولة فبإجماع مُجالسيه ووسطاء التسهيل والتعجيل بالحكومة، يقول: «لن نمنحه الثقة»، ويطرح شروطاً ومعايير تعجيزية، أو بالأحرى ترحيليّة للحريري، يدرك مسبقاً أنّ لن يقبل بها، وكذلك المتمسكون به في رئاسة الحكومة. كمثل تلطّي باسيل ومن خلفه عون خلف عنوان حقوق المسيحيين، لحرمان الحريري من حق تسمية وزراء مسيحيّين.

 

تحوّلت معركة عون وباسيل للاطاحة بتكليف الحريري، كفيل يسير في «كوريدور زجاج»، ومع كل خطوة «تكسير على أبو جَنب»، كانوا يعوّلون على رسالة عون إلى مجلس النواب لانتزاع التكليف، فأحبطت هذه الرسالة وسجّل الحريري هدفاً ثميناً في مرمى عون بعد تمريرة من بري. كان الهدف متوقعاً، فرئيس المجلس نصح رئيس الجمهورية بعدم إرسالها فأصرّ.

 

صارت المسألة شخصيّة، «زعلوا» من المجلس، اغتاظوا من رئيسه، ولم يتركوا للصلح مطرحاً. طرح الرئيس بري مبادرته، حظيت بإجماع حولها؛ عربي ودولي وفي المقدمة الاميركيون والفرنسيون، التزم بها الحريري وسائر القوى السياسية، الّا الرئيس والصهر رفضا أن يسلّما بها كفرصة وحيدة متاحة للخروج من الأزمة وتشكيل حكومة تحاكي وجع الناس وتفرمل مسار البلد الذي يتسارع نحو الارتطام الكارثي. واستكمالاً دحرجوا كرة النار في اتجاه عين التينة وفتحوا المعركة على الرئيس بري. والرطل الذي تدحرج من بعبدا قابَله رطل ووقيّة من عين التينة... والجمر تحت الرماد!

 

حاول جبران ومن خلفه عون، جرّ الحليف إلى معركته، فلم تنفع محاولته الاستعانة بالسيّد حسن نصرالله، قال له: «أقبل ما تقبل به لنفسك». وجواب نصرالله في العلن مشى بين النقاط، سعى بداية الى إخراج جبران من إحراجٍ طوّقه في الشارع المسيحي، لكّنه قال له: «أنا لست حكماً... ولا تستطيع أن تقبل بما نقبل به». ووسّع السيّد مرحلة ما يقبل به سواء في الداخل او الخارج... لينتهي الى القول انّ جبران أذكى من أن يقدم على خطوة من نوع خلق مشاكل بين «حزب الله» وبين حركة أمل. هذا الكلام لجبران أتبع بكلام أوضح خلف الجدران:

- مبادرة الرئيس بري قائمة، هو يكمّلها ونحن متمسكون، ولا نماشيكم أبداً في المعركة على رئيس المجلس النيابي.

- بالتأكيد انك لا تقبل بما نقبل به، فنحن نقبل بالحريري رئيساً للحكومة، وبأن يسمّي الوزيرين.

- لا نقبل بأن تشارك في الحكومة ولا تمنحها الثقة.

 

لم يغيّر هذا الكلام ما في النفوس، دأب عون وجبران على الموقف ذاته، ونَحا الصهر الى الاستفزاز المباشر للحريري «ألّف أو إرحل»، ومواقع التواصل الاجتماعي الحليفة، تتجيّش وتبدأ الترويج «أن الحريري اتّخذ قراره بالإعتذار».

 

الحريري لم يقل كلمته بعد في مواجهة هؤلاء، يبدو أنّه عمّم على فريقه أنّ الصمت أبلغ من الكلام. وعندما يعود لكلّ حادث حديث، والنقاط ستوضع على كل الحروف.

 

يؤخذ على الحريري أنّه ترك التأليف وسافر، من يدفعونه الى الاعتذار يقولون إنّه هرب لأنّه لا يريد تأليف حكومة، لا بل ممنوع عليه أن يشكل حكومة. امّا العارفون فيقولون إنه «مطنّش» على كل ما يروّجونه، هو يتابع مجرى الأحداث في لبنان، ويرى كما يرى الجميع، وخصوصاً العاملون على خط تسهيل التشكيل، انّ عقد التعطيل ما زالت في ملعب عون وجبران. واما موقفه فلم يتبدّل، فصيغة الحكومة التي قبل بها وفق مبادرة الرئيس بري، هي أقصى ما يمكن أن يقبل به، ولا مجال على الاطلاق للقبول بتقييد رئيس الحكومة وحرمانه حقه، الذي لا ينازعه فيه أحد في تسمية وزراء مسيحيين. وبالتالي، لو أنّه لمس إيجابيات ورغبة جديّة من عون وجبران تفتح باب تشكيل الحكومة، لكانَ قطع زيارته الى الخارج وعاد فوراً.

 

يقود ما تقدّم الى سؤال: ماذا يربح الحريري إن قرّر الاعتذار؟

 

في الجواب عن هذا السؤال، الدافعون لاعتذار الحريري نجحوا في إشاعة هذا المناخ، لكن الرئيس المكلف لم يقل صراحة إنه سيعتذر، كما أنّه لم يقل صراحة إنّه لن يعتذر، ولكن ثمة وقائع يقرأ فيها موقفه من الاعتذار وعدمه: أولاً، التزامه بالمبادرة الفرنسية وبمبادرة رئيس مجلس النواب. ثانياً، تأكيده أنّه لن يزعّل الرئيس بري. ثالثاً، إدراكه أنّ بخطوة الاعتذار يسلف عون وصهره انتصاراً عليه، ويلحق بنفسه خسارة لا قيامة منها. رابعاً، ربما يدرك الحريري أنّ كثراً يكمنون له، ومن يدفعه الى الإعتذار يدفعه الى الإنتحار. فهل يُعقل أن يقدم على ذلك، ويقدّم رأسه لعون وصهره ولكل من يكيدون له، على طبق من الماس؟