مثير للدهشة كان ذلك المشهد السوريالي أمام قصر العدل. بات كل شيء في لبنان عرضة لتنازع الشوارع، بين مؤيّد ومعارض، في وقت يهوي فيه البلد بسرعة السقوط الحرّ إلى الهاوية، في ظلّ النزف المستمر للإمكانات، بما يجعلها «من دون حبل أمان» على حدّ قول الرئيس حسان دياب في زيارته القطرية. السؤال الذي يُطرح أمام هذا المشهد، وبصرف النظر عن أحقية القاضية غادة عون أو القاضي غسان عويدات، هو مَن المستفيد في انقسام الجسم القضائي، الذي يكاد يكون من بين المقومات القليلة المتبقية - بجانب الجيش اللبناني - للقول إننا نعيش في دولة أو حتى شبه دولة؟

هو السلوك التدميري نفسه الذي يشرّع كل شيء أمام المعارك العبثية، خدمة لشعبوية هنا، أو تغطية على فساد هناك. لكأن ثمة إصراراً على تدمير كل مرتكزات البلاد، طالما أنّ تلك البقرة الحلوب لم تعد تدرّ على اصحابها مالاً منهوباً أو طموحاً سياسياً آنياً أو مؤجّلاً.

 

هذا ما يجرّنا نحو سؤال بالتبعية لما سبق: هل أنّ أولئك الذين يجعلون الاختلاف على كل شيء، ربما غداً على لون العلم، يدركون ما يفعلون، وهنا نكون أمام جريمة مكتملة الاوصاف، وعن سابق تصوّر وتصميم، لتدمير لبنان؟ أم أنّ مغامرات حروب الإلغاء هي التي تحرّكهم غريزياً نحو استباحة كل شيء، حتى وإن تعلّق الأمر بالسلطة القضائية التي لم تشهد مثل هذا الانقسام الذي نشهده اليوم، حتى في ذروة محطات الحرب الأهلية؟


 
 

يوميات الأزمة اللبنانية تدفع بالمنطق إلى توقّع الاحتمال الثاني. مَن تقاسم البلد على مدار ثلاثين عاماً لا يجدون مشكلة في تسليمها مثلما تسلّموها قبل ثلاثين عاماً. هذا ما يتبدّى، بأبسط دلالاته، في استمرار التعنت في ما يخصّ تشكيل الحكومة الجديدة، والذي لم تعد تنفع معه لا نداءات متكرّرة في المجتمع الدولي، ولا مبادرة فرنسية، ولا حتى تلويح بالعقوبات، كما لو أنّ ثمة من يريد أن يقول إنّ لبنان ما قبل 17 تشرين الأول 2019 أصبح منتهي الصلاحية، وأنّ لا بديل إلّا بمغامرات تدميرية من قبيل الفدرالية، التي باتت مكرّسة عملياً في فدراليات، بدأت بفدرالية النفايات قبل خمسة أعوام، وقد تشكّل عنواناً مستتراً لكل شيء: المال، الغذاء، كارتيلات المصالح… وها هي اليوم تصل إلى القضاء!

 

ليس بريئاً كل ما يجري. منذ بداية احتجاجات 17 تشرين، يبدو أنّ ثمة اصراراً على جعل مؤسسات لبنان تتهاوى كقطع الدومينو، كمقدّمة لإعلان فشل الدولة اللبنانية بشكلها الحالي، وما يستتبع ذلك من سيناريوهات ما بعد الدمار.

 

بداية، ضُرب القطاع المصرفي بسلسلة قرارات وتعميمات وإجراءات فاقمت الأزمة المالية بدلاً من حلّها، أو على الأقل احتوائها، والسيطرة على تداعياتها المعيشية. بعدها أتت محاولات النعي المبكر لمقومات الدولة بكل أشكالها، وفي كل مفاصلها، ضمن موجة تشكيك في كل شيء، من ادارة أزمة كورونا وصولاً إلى الورقة الاصلاحية التي أعدّتها حكومة تصريف الأعمال قبل استقالتها.

 

ثم جاءت لحظة انفجار المرفأ، التي سارع كثيرون لاستغلالها، واقفين على أطلال بوابة الشرق، ومؤذنين بنهاية لبنان، استرشاداً بعبارة ماكرون الشهيرة «عقد سياسي جديد أو تغيير النظام». هنا استيقظت أحلام الماضي بوقائع الحاضر، وصار التعطيل مقدّمة لإفشال أية مبادرة لإعادة تعويم فكرة الدولة الواحدة لصالح طروحات الفدرالية بمسمياتها المختلفة.

 

هنا لا يصبح التعطيل الحكومي، على سبيل المثال، مجرّد خلاف على ثلث معطل وحصة رئاسية وحكومة اختصاصيين وحكومة تكنوسياسية… إلى آخر تلك المفردات التي دخلت قاموس حياتنا اليومية. المقصود بالفعل هو إيصال لبنان إلى معادلة محدّدة: إما اعادة تشكيل النظام بما يخدم فريقاً بعينه، وإما ايصال البلاد نحو لحظة الارتطام الكبرى، التي تتمخض شكلاً متجدداً من نظام القائمقاميتين أو المتصرفية أو ما شابههما.


 
 

ما سبق ينسحب على كل تفصيلة من تفاصيل ادارة ما تبقّى من دولة، كما يمثل الدافع للمعارك المفتوحة التي تُخاض على اكثر من جبهة - ابتداءً من التدقيق المالي الجنائي، مروراً بترسيم الحدود البحرية، وصولاً إلى المنازلة الدائرة حالياً في أروقة قصر العدل.

 

في الحدّ الأدنى، قد تكون تلك الجبهات تكتيكاً تعشقه الطبقة الحاكمة في لبنان، وبشكل أخص الفريق العوني، والمتمثل في سياسة الهروب إلى الأمام من الاستحقاقات الأساسية، وفي سياقها لا ضيم في توتير الوضع السياسي ودفع الأمور باتجاه خيارات متطرّفة، بما في ذلك الفوضى، التي يُفترض - من وجهة النظر الشيطانية تلك - أن تجبر الخصوم على تقديم تنازلات، كما حدث مراراً وتكراراً، في اللحظة التي كانت تطلّ فيه الفوضى برأسها.

 

يُضاف إلى ما سبق، أنّ مثل هذه المناورات من شأنها أن تحرف الانظار عن المشكلة الفعلية التي يعاني منها لبنان، والمتمثلة في تعطيل عملية تشكيل الحكومة، وبالتالي قلب الأولويات رأساً على عقب، بحيث تصبح المعارك العبثية في مرتبة أكثر تقدّماً من التسوية الحكومية.

 

هذا في الحدّ الأدنى، أما في الحدّ الأقصى، فإنّ كل ما يجري يدفع إلى التفكير في احتمالات أكثر خطورة تتمثل في الدفع باتجاه فكرة استحالة التعايش الحالي بين المكونات السياسية، وهنا تكون الخيارات مفتوحة على أكثر من اتجاه جهنمي.

 

دائماً ما يردّد فخامة الرئيس أنّه يريد أن يسلّم لبنان أفضل للأجيال المقبلة. هو شعار جميل. لكن ما تبقّى من ذاكرة حية يسترجع حكماً في لحظة سماع هذه الكلمات، عبارة أخرى قالها «فخامة الجنرال» قبل ثلاثين عاماً ونيف: «بيروت دمّرها الزلزال سبع مرات وأعدنا بناءها، ونحن مستعدون لتدميرها ثامنة وتاسعة ونعيد بناءها إن لزم الأمر!». هل ميشال عون 2021 تغيّر عن ميشال عون 1989؟ ثمة شكوك في ذلك!