ثمّة أسئلة جادّة وهامّة ومُقلقة تُعدّ الإجابة عنها باباً ينفتح منه ألف باب في البحث القرآنيّ وفق المنهج المختار، ويضع نهاية حتميّة أمام محاولات وتمحّلات ومساعي دعاة ما نسمّيه صنعة التّرقيع الّلغوي والبلاغي القرآني، أسئلة يُمكن إيجاز بعضها بما يلي:

 

 

هل القرآن في قصصه المنقولة عن الأقوام السّابقين وأنبيائهم المفترضين يتحدّث عن حقائق وجدت في زمان ومكان ما، وليس له من  دور في استحداثها ولا تغيير أو تبديل نصوص حواراتها فضلاً عن أصل وجود شخصيّاتها، وإنّما ينقل الوقائع كما هي وفق ما تقتضيه المصلحة ويقدّره الموقف وهو يخاطب عموم البشريّة في طول عمود الزّمان؛ بغية هدايتهم وإرشادهم وتوعيتهم...إلخ؟!

 

 

أم أنّه يفترض كلّ هذه القصص أو جملة من رموزها أو وقائعها وحواراتها بنحو الافتراض والتّمثيل، ويحاول صياغتها بطريقة أدبيّة بيانيّة لتقريب الأفكار الّتي يهدف إلى طرحها لا غير، ولا ضرورة تقرّر المطابقة الخارجيّة الحتميّة الجزميّة ما بين نقولاته وافتراضاته وتمثيلاته ومسميّاته وما بين الواقع الحاصل في ذلك التّاريخ؟!

 

 

من الواضح أنّ مختار عموم علماء الإسلام هو الأوّل؛ حيث يرون أنّ القرآن في نقله لقصص الأقوام السّابقين يمارس دور النّقل لوقائع قد حصلت في ذلك الزّمان والمكان، ويحاول أن ينقلها من زوايا مختلفة كما هي من أجل إيصال أفكاره وقناعاته، وهذا هو نصّ وظاهر عموم نقولاته أيضاً، وهو ما يفهمه أيّ قارئ لها كذلك، والرّأي الثّاني إنّما يكون وجيهاً لمن يلتزم بلوازمه الكاملة، لا من ينتقي منه انتقاءً وتبعيضاً في سبيل الهروب للأمام؛ اتّكاءً على بعض المقولات الغنوصيّة المعروفة.

 

 

وعليه: فمن يختار الاتّجاه الأوّل ـ وهو رأي عموم علماء الإسلام كما أسلفنا ـ سيواجه إشكالات عميقة جدّاً تقف أمام اتّزان وواقعيّة جملة من النّقولات القرآنيّة لهذه القصص والحوارات والتّوصيات والإلزامات، ولا يمكن حلحلتها بدعوى أنّ القرآن قد تعمّد نقلها من زوايا مختلفة تبعاً لحاجاته ومتطلّباته الدّعويّة؛ لأنّ طبيعة تلك الحوارات والحوادث تمنع من ذلك بالحتم والجّزم؛ إذ لا يمكن أن نفترض أنّ الشّخص يقول في حديثه الواحد الحصريّ الشّيء ونقيضه، أو الخاصّ والعامّ معاً...إلخ.

 

 

أمّا المساعي لحلحلتها عن طريق الدّخول في لعبة التّوظيفات الّلغويّة والبلاغيّة والنّحويّة فغير نافعة أيضاً؛ لأنّ أولئك الأقوام مع أنبيائهم المفترضين كانوا يتحدّثون فيما بينهم بغير الّلغة العربيّة، وبالتّالي: فحينما ينقل لنا القرآن نصّ تلك الحوارات فلا بدّ أنّه يُقدم على ترجمتها لنا بعبارات ومفردات عربيّة متطابقة تمام التّطابق معها، ومن ثمّ: فإذا أردنا أن نصحّح اختلاف النّقل القرآنيّ لتلك الحوارات والوقائع بدعوى أنّ أصل تلك الحوارات كانت يوظّف ما يُطابق هذه المفردات المتغايرة أيضاً، فعلينا أن نفترض أنّ المفردات المستخدمة في تلك الّلغات كانت تدلّ على الشّيء ونقيضه في الوقت نفسه، وبالتّالي: فنقل القرآن المتغاير كان متطابقاً تمام التّطابق مع واقع تلك المفردات واستعمالاتها!! وهذا الكلام لا عرفيّة ولا علميّة له، بل الدّليل على خلافه أدلّ.

 

 

#الّلهم إلّا أن يُقال: إنّ القرآن وقناته الحصريّة الموصلة أو المصدّرة ـ وهي الرّسول ـ كان يأخذ أصل تلك الوقائع والحوارات وشخوصها كأصول مسلّمة، لكنّه يزيد وينقص عليها بصور مختلفة ومفردات متغايرة ومن زوايا متنوّعة؛ في سياق العمل الدّعوي الّذي كان يُديره رسول الإسلام في مناسبات مختلفة، وبالتّالي: فلا ضرورة تستدعي الإيمان بمطابقة هذه التّعابير القرآنيّة فيما بينها فضلاً عن تطابقها مع أصل وقوعها الخارجي، لكنّ هذا القول ولوازمه الخطيرة لا قائل به بينهم، فتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.