من حقّ التيارات والأحزاب السياسية المسيحية أن تتخوّف من اقتراح قانون الانتخاب السرمدي الذي يُخرجه الرئيس نبيه بري من قمقمه، والذي يقضي باعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة خارج القيد الطائفي، ممّا قد يُخلُّ بالتوازن الطائفي بين المسيحيين والمسلمين، جرّاء ازدياد الفجوة السكانية بين كلا المُكوّنين للصّيغة اللبنانية، إلاّ أنّ ذلك لا يعفي القيادات المسيحية الليبرالية والمُتنوّرة في الأحزاب المسيحية ومحيطها وخارجها من التّشمير عن ساعد الجّد لإيجاد صيغة تمثيلية أكثر ديمقراطية وانفتاحاً وعصرية، وأقلّ تعصّباً وانغلاقاً وطائفيةً، فالنظام الطائفي والمُغلق والمُتخلّف هو أبعد ما يكون عن حماية حقوق المسيحيين المُهدّدة دائماً بتناقص أعدادها  سواء بالهجرة أو بتدنّي مستوى الولادات،

 

وكان من حُسن طالع اللبنانيين أنّ الطبقة السياسية التي أفرزتها انتخابات العام ١٩٧٢ كانت ما تزال على قيد الحياة نهاية العام ١٩٨٩، حين توصّلت إلى إقرار "وثيقة الوفاق الوطني" ، التي أنهت الحرب الأهلية التي استمرت منذ أواسط العام ١٩٧٥ حتى مشارف تسعينيات القرن الماضي، وحسمت مسائل حساسة كانت ما زالت عالقة، كنهائية الكيان اللبناني بمعنى عدم دخوله في وحدة مع أي بلدٍ عربي آخر، مع التّأكيد على " الوجه العربي" للبنان، وإعادة الالتزام الحاسم بنظام الإقتصاد الحر، وتصوّرت الوثيقة حلّاً للأزمة اللبنانية على مرحلتين: الجمهورية الثانية التي أسّست لها الوثيقة، وهي مرحلة انتقالية إلى جمهورية ثالثة تُلغى فيها الطائفية السياسية، وجرى تعديل المادة ٩٥ من الدستور من أجل إلزام أول مجلس نيابي مُنتخب بإنشاء هيئة خاصة لهذا الغرض، ولكن دون تحديد مهلة زمنية لعملها، كما نصّت الوثيقة على أنّ الجمهورية  الثالثة اللاطائفية سوف تُفتتح بانتخاب مجلس مُتحرّر من القيد الطائفي، أمّا الطوائف فيجري تمثيلها في مجلس شيوخ شبيه بالذي نصّ عليه دستور العام ١٩٢٦، يتمتّع بصلاحيات كاملة في القضايا ذات  الصفة الوطنية.

 

إقرأ أيضا :  النائب إبراهيم كنعان..لا ماءكِ أبقيتِ، ولا إناءكِ أنقيتِ

 

 

للأسف الشديد، لم ترَ الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية النور، ووقع لبنان تحت الوصاية السورية المباشرة، وما هو أساسي وهام في اتفاق الطائف جرى تهميشه وحذفه، وزادت الأمور سوءاً على سوء انتقال البلد من الوصاية السورية إلى الوصاية الإيرانية بواسطة ذراعها الطولى المُسلّحة حزب الله، حتى وصلنا اليوم إلى ما نحن عليه، وقد سُدّت كلّ السّبُل أمام قيام نظام سياسي ديمقراطي ومُتعافي، ومُتحرّر من القيود الطائفية والولاءات التقليدية، وحتى بات الأمر مُلحّاً بوجوب اقتلاع الطبقة السياسية الفاسدة الحاكمة اليوم، والتي عاثت فساداً في البلاد خارج كلّ الأطُر الدستورية والقانونية والمدنية، ورعت فسادها بواسطة السلاح غير الشرعي الذي تحمله قوى طائفية ومذهبية، ولاءها الإقليمي ظاهرٌ للعيان، لا تُخفيه وتتباهى به، ويحجز كلّ إمكانية لقيام دولة القانون والدستور والمؤسسات.

 

 

في ظلّ السلاح غير الشرعي لا يمكن الحديث عن أي إصلاح وإنتاج قانون انتخابات عصري وديمقراطي، كذاك الذي يطرحه الرئيس بري باليد اليُمنى: لبنان دائرة انتخابية واحدة خارج القيد الطائفي، ويحمل باليد الأخرى سلاح حزب الله الموضوع في خدمة الثنائي الشيعي، كلّما تهددت مصالح أحد طرفيه أو كلاهما معاً.