يدرك الرئيس نبيه بري، انّ لبنان امام خطر وجودي، ولطالما أكّد انّ مسؤولية كل الاطراف، أن ينظروا اليه من هذه الزاوية، وليس كخطر عابر، فلبنان في عين العاصفة، ورياحها وأعاصيرها بدأت تضربه في كل مفاصله، وتكاد لا تبقي منه شيئاً.
 

لبنان بوضعه الراهن، كما يُنقل عن بري، يتخطّى القلق والخوف عليه؛ مشدود بحبل أزمات قاتلة، تبدأ بالأزمة الاقتصادية والمالية ولا تنتهي بالانفجار الكارثي في مرفأ بيروت، وما بينها من صدمات حارقة لكل اللبنانيين. وها هو لبنان يقف اليوم على فالق زلازل وكوارث، وسقوط مدوٍ، لا بل انهيار كياني بالكامل، وصار على بُعد امتار قليلة من السقوط النهائي او النجاة من هذا الفالق الزلزالي. فأيهما نختار السقوط ام النجاة؟

 

حتى لا نترحّم على لبنان، جنّد بري نفسه لمهمة شاقة من موقعه كنقطة تقاطع ووصل بين القوى السياسية، وحدّد طريق النجاة بسبع كلمات: «حكومة جامعة ببرنامج إصلاحات انقاذية تنهض بلبنان»، مؤكّداً انّه اليوم «أكثر تصلباً من اي وقت مضى في اجراء هذه الإصلاحات».


 
 

ولأنّ استيلاد هذه الحكومة يرتدي صفة الاستعجال، بادر الى تسمية الرئيس سعد الحريري لتشكيل هذه الحكومة. ففي ذلك مصلحة للبلد في هذه المرحلة، وفي هذا السبيل اندفع لنزع الألغام، حتى قبل زرعها في هذا الطريق، على افتراض انّ المصيبة، أو المصائب التي حلّت بلبنان، يفترض انّها جمعت أهل السياسة على هدف الانقاذ.

 

قبل انفجار المرفأ، نظر المجتمع الى وضع لبنان كحالة ميؤوس منها في الاستجابة الى اصلاحات تُخرجه من مأزقه، وبعد انفجار المرفأ فتح العالم كله عيونه في اتجاه لبنان اقلّه من الباب الانساني. واما سياسياً، فنظر بتقدير الى مهمّة بري، وقاربها كفرصة أمل للبنان، إنْ نجحت فمن شأنها ان تضع هذا اللبنان على سكة الخروج من ازماته.

 

فالفرنسيون نزلوا بثقلهم بمقولتهم الشهيرة «ساعدوا انفسكم لكي نساعدكم»، وعوّلوا على دور بري، وقدرته على تدوير الزوايا مهما كانت حادة. والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون راهن شخصيًّا على نجاح رئيس المجلس في تعبيد الطريق لتشكيل حكومة شراكة واصلاحات، تنقل المسار اللبناني من الانهيار الى عودة النهوض والانتعاش. وكذلك حضر المصريّون بزخمهم، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أكّد لرئيس المجلس انّ مصر ستكون الى جانب لبنان لبسط حالة الامن وترسيخ الهدوء والاستقرار فيه.

 

لكنّ المفاجأة الصادمة للداخل والخارج، تجلّت بعدما أدار بري محرِّكات مهمّته، وشرع في المشاورات التمهيدية لاستيلاد الحكومة. فبعض الطبقة السياسية، التي يُفترض انّها اتعظت وارتهبت من الكوارث المتراكمة والمتلاحقة، تصرّ على انكار ما آل اليه حال البلد، وعلى العيش في عالم العبث السياسي، ما قبل 17 تشرين الاول 2019، وما قبل الانهيار الاقتصادي المالي، وما قبل كارثة انفجار مرفأ بيروت، وكأنّ شيئا لم يحصل، محاوِلةً بإنكارها هذا، كما بإصرارها، القفز فوق الأزمات والكوارث، وفوق أوجاع البلد ومصيره المهدّد، وفوق آلام الناس، وإغراق السفينة الحكوميّة عمداً قبل ابحارها، عبر وضع شروط وفيتوات متبادلة.


 
 

فسعد الحريري عينه على جبران باسيل، لا يريد تكرار التجربة السابقة معه، ويربط عودته الى رئاسة الحكومة بسلّة شروط، ولاسيما منها انّه يريد ان يحكم بفريق عمل متجانس معه، مطلق اليدين وبطريقة مختلفة عمّا سبق. وبعض صقور «المستقبل» يجاهرون علناً بالصلاحيات الاستثنائية لحكومة الحريري. علماً انّ الطائف لا ينصّ على صلاحيات استثنائية تعطّل او تلغي مجلس النواب، ولا على انّ رئيس الحكومة يختار من يريده من الوزراء ويتحكّم بهم ويديرهم وفق رغبته ومشيئته.

 

وجبران باسيل عينه على سعد الحريري، وخلفية الموقف هي رفض عودة شخصية غير منتجة، وكذلك رفض منح الحريري حكومة يختارها ويتحكّم بها، حكومة تظهره وحده بريئاً من كل ما حصل في البلد من سقطات وازمات، وأمّا كل الآخرين فمذنبون. ولكن مع طرح اسم الحريري، فما يريده هو اتفاق مسبق على سلّة شروط، بُنيت على خوف من ان يُقدم الحريري على خطوة تراجعية عن المقاربات الإصلاحية، مثل التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، ورفض تمدّد هذا التدقيق الى سائر الوزارات والادارات. ولعلّ ابرز تلك الشروط هو التفاهم المسبق على آلية عمل مجلس الوزراء، بعيداً من الاستنسابية والمزاجية في الحكم، وفي طرح مشاريع يعدّها وزير يرضى عنه، للبحث والإقرار في مجلس الوزراء، وحجز أو تجميد أو تجاهل مشاريع يعدّها وزير غير مرضي عنه.

 

ما اكّدته المشاورات التي بدأها الرئيس بري، هو انّ هذه الشروط المتبادلة، لا في زمانها ولا في مكانها، ولا تشكّل عامل تسهيل لولادة قريبة للحكومة، بل هي شروط تعطّل هذا المسار وتعيده الى الوراء، وأما جوهرها فحقد متبادل بين الطرفين.

 

والأكيد ازاء تصادم هذه الشروط والإصرار عليها، انّهما قد يرتِّبان نتيجة سريعة، وفي وقت أقرب ممّا يتوقّعه طرفا الاشتباك على حلبة الشروط. فحتى الآن، ما زال رئيس مجلس النواب يطوّل حبل المشاورات الى آخره، ويعطي لمهمته مجالاً، لعلّ هذا الاشتباك يتوقف، وتتعطّل معه لغة الشروط ، انما هو مجال غير مفتوح، واللقاء الثلاثي المرتقب هذا الأسبوع، بين المعاون السياسي لبري النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله» حسين خليل وجبران باسيل، سيحدّد وجهة الأمور في الآتي من الأيام.

 

ولكن في نهاية المطاف، فإنّ التمسك بالشروط قد يقرّب بري من اليأس منها، وهو فعلاً اصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يُطفئ محركات مهمّته، وبالتالي لن يكون مفاجئاً ابداً إن بادر رئيس المجلس الى اغلاق غرفة المشاورات، وإطفاء محرّكاته وايقاف مهمّته، ويترك كلّ طرف يقلّع شوكه بيديه.

 

الشروط المتصادمة، صادمة لمهمّة بري، فـ«كأنّها تُطرح والبلد بألف خير، وانه ليس على حافة انهيار ومصائب بالجملة. إنّ كلّ ساعة، وكل دقيقة، محسوبة علينا، وكلّ ساعة تأخير، وكل دقيقة تأخير في ادراك مصلحة لبنان وانقاذه، تُهدَر من عمرنا، ومن عمر اهلنا ومن عمر بلدنا. الواقعية هي التي يجب ان تسود، وكذلك الموضوعية والشعور بالمسؤولية، فلا يجوز ابداً ان نحكّم الحقد بحياتنا، انّ الحقد والسياسة خطان متوازيان لا يلتقيان، لا يمكن ابداً ان نخلط الحقد بالسياسة، فإن اختلطا يؤديان الى كارثة، وفي حالة لبنان، اذا لم يستطع السياسي ان يضبط انفعالاته ومشاعره الشخصية، لا يخسر هو فقط، بل يخسر هو ويخسر البلد معه، وخسارة البلد بالتأكيد هي الاكبر».


 
 

لم يقفل الرئيس بري الباب امام أحد، لكنّ للمعارضين أسبابهم الشخصية والسياسية والحريرية وكذلك الشعبوية، فهم في الأساس نأوا بأنفسهم وحسموا موقفهم برفض حكومة الوحدة الوطنية والشراكة، وغطّوا رفضهم بالمطالبة بحكومة مستقلين بالكامل، هم مقتنعون قبل غيرهم باستحالة بلوغ مثل هذه الحكومة في لبنان. وكذلك بالمطالبة الدعائية والمبتورة بانتخابات نيابية مبكّرة، يدركون انّها غير قابلة للتحقيق في غياب القانون الانتخابي الذي يفترض ان تجري على اساسه!

 

واما بالنسبة الى وليد جنبلاط، فرغم تغريدته التي دعا فيها الى اجراء الاستشارات بدل الهمسات في الكواليس، على ان تختار الكتل النيابية من تشاء. واشارته الى انّ «الحزب الاشتراكي لا علاقة له بأي تيار سياسي ولا ندين لأحد بأي جميل»، فإنّ الرئيس بري، الذي يتواصل باستمرار معه، اما مباشرة واما عبر موفدين من جنبلاط، فإنّ الحديث مع رئيس التقدمي له وقته، والرئيس بري متمسّك بقوله «انّ وليد في الاوقات الدقيقة، لا يضيّع البوصلة».

 

ماذا لو اطفأ بري محركات مهمّته؟

 

الجواب البديهي، هو مزيد من التخبّط، ومزيد من التشنّج، ومزيد من الاشتباك، ومزيد من الوقت الضائع، والأكيد مزيد من الاهتراء على مستوى البلد بشكل عام. وسيكون لرئيس المجلس خطاب مهمّ في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر الأحد المقبل، ولن يكون مفاجئاً إن بقيت مهمته عالقة في حلقة الشروط، أن يبادر الى وضع النقاط على الحروف، وليتحمّل كل طرف مسؤوليته.

 

يبقى اخيراً، انّ الرئيس بري، ينظر بعين الود والمحبة للمبادرة الكويتية في اتجاه اعادة اعمار اهراءات القمح في مرفأ بيروت وترميم مستشفى الوردية، ويأمل لو انّ هذه المبادرة تتوسّع لإعادة اعمار مرفأ بيروت بالكامل، لأنّ الكويتيين، كما يقول بري، هم ولبنان واحد.