تمكنت قوى 14 آذار من تشكيل الأكثرية النيابية في أوّل انتخابات بعد خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005، وكذلك الأمر في انتخابات العام 2009، ولكنها مُنعَت من الحكم إمّا عن طريق الاغتيالات السياسية، وإمّا بالتعطيل، وإمّا باستخدام السلاح، وإمّا بالانقلاب ولو بشكل دستوري.
 

شَكّل الخروج السوري من لبنان محطة فاصلة بين مرحلتين أفسحت في المجال أمام تَعايش قسري بين فريقين خلافاً لحقبة الوصاية التي كان الجميع فيها تحت ذاك السقف ولو برزت أصوات معارضة، ولكنها كانت مستبعدة عن أي دور على مستوى السلطة والتأثير في اتجاهاتها، إلا انّ القرار السياسي المتصِل ببَسط سيادة الدولة على أرضها ومؤسساتها ظل مغيّباً وممسوكاً من قبل فريق 8 آذار إمّا بحلته السورية قبل العام 2005، أو بحلته الحزب إلهية بعد هذا التاريخ، ما يعني انّ الفريق نفسه يتحمّل مسؤولية تَعثّر قيام الدولة في لبنان.

 

وقد «نجح» هذا الفريق بحكم لبنان لفترة 30 سنة متواصلة بفعل ظروف داخلية وخارجية، ويبدو انّ هذه الفترة وصلت إلى نهايتها مع الانهيار الكبير الذي يصيب الدولة، ومردّه إلى سببين رئيسين:

 

 
 

السبب الأول، الفشل في إدارة الدولة بفِعل تغليب مصلحة الدويلة والمصالح الخاصة على المصلحة العامة، وهذا الفشل كان متوقعاً لتعذُّر التوفيق بين مشروع الدولة ومشروع الدويلة، فمهما طال التعايش سيأتي اليوم الذي ستنهار فيه الدولة التي شكّلت الغطاء للدويلة، لأنه بكل بساطة مقدرات اي دولة في العالم بالكاد تكفيها لسد عجزها، فكيف بالحري في حال تَقاسَمتها معها دويلة أخرى وكل المنظومة الملتحقة بها.

 

السبب الثاني، تبدُّل الأولوية الخارجية من مساعدة لبنان تحت عنوان الحفاظ على استقراره، إلى تركه يتدبّر شؤونه بخاصة على أثر الوصول إلى قناعة غربية وعربية بأنّ مساعدة لبنان تعني مساعدة الفريق المُمسك بقراره، وبالتالي استمرار الوضع المَشكو منه والمتمثِّل بتحويل لبنان إلى منصّة ضد السياسات العربية والغربية، ما يعني بالنسبة إلى هذه المنطق انّ انهيار استقراره يبقى أقل كلفة من استقرار مَمسوك من فريق خصم محلي وإقليمي، فيما الانهيار ليس نتيجة لمؤامرة خارجية، بل بفِعل سياسات الفريق المُمسك بالسلطة في لبنان.

 

فالفشل هو نتيجة طبيعية لإدارة داخلية فاسدة وإدارة خارجية وضعت لبنان في قلب محور مُعادٍ للتوجهات العربية والغربية، وهذا لا يعني الارتهان للخارج، ولكن لماذا على هذا الخارج مساعدة لبنان إذا كانت سياساته معادية للتوجهات الدولية، وكل فلسفة تحييد لبنان ترتكز على فكرتين أساسيتين:


 
 

الفكرة الأولى، انّ إمكانات لبنان المتواضعة جداً لا تسمح له بالدخول في صراع محاور دولية وإقليمية، فيما من مصلحته أن يبقى خارج دائرة هذه الصراعات تجنّباً لأيّ انعكاسات سلبية على وضعه السياسي والمالي، لأنه لا يتحمّل محاصرته او وضعه على لائحة العقوبات.

 

الفكرة الثانية، انّ تعدديته تدفع كل جهة للتعاطف مع جهات خارجية فيسقط الاستقرار الداخلي، وفي كل مرة سقط فيها الحياد سقطَ الاستقرار الداخلي.

 

فهناك فريق سياسي أوصَل لبنان إلى الإفلاس والانهيار بفعل سياساته الداخلية والخارجية، ما يعني انّ هذا الفريق لم يعد مؤهلاً للاستمرار في موقعه، لأنه لا يستطيع من أوصَل لبنان إلى الفشل ان يقود عملية الإنقاذ لا سيما انه يتعذّر عليه تبديل سياساته او الانقلاب على هذه السياسات بفعل ارتباطاته وأيديولوجيته وأولوياته. ولذلك، يجب بديهيّاً تسليم دفة الحكم إلى فريق جديد يكون مؤهلاً وقادراً على وضع سياسات داخلية وخارجية جديدة ومختلفة.

 

ومع تَسارع وتيرة الانهيار بسبب غياب الإجراءات المطلوبة، جاءت الأزمة الصحية لتفاقم الأزمة المالية التي تحوّلت أيضاً إلى أزمة عالمية، ومن كان لديه الاستعداد أساساً لمساعدة لبنان بشروط طبعاً، وهم قِلّة قليلة، أصبح منهمكاً بأوضاعه، فيما رفعت أزمة «كورونا» عدّاد الفقر إلى معدلات غير مسبوقة وأرقام مخيفة، ما يعني انّ لبنان سيكون مُقبلاً بعد الانتهاء من الأزمة الصحية على انفجار أهلي واجتماعي، وهذا الوضع ليس بحاجة لمن يَستشرفه، لأنّ الثورة الاجتماعية السلمية التي تفجّرت في ١٧ تشرين الأول بسبب الأزمة الاقتصادية مرشّحة للتحوّل إلى ثورة غير سلمية لسببين رئيسيين: لأنّ الأزمة المالية تفاقمت بشكل كبير ولم يعد أمام المواطن ما يخسره، ولأنّ الأكثرية الحاكمة مُصرّة على تحدي إرادة الناس بممارسة سياسية كانت قد انتفضَت عليها لكونها أوصَلت لبنان إلى الإفلاس، وكيف بالحري انّ هذه الممارسة ما زالت نفسها على رغم غضب الناس والأزمة المالية؟

 

ومن هنا، على الأكثرية الحاكمة المتمثّلة في ٨ آذار، ان تختار وقبل فوات الأوان بين خيارين:

 

خيار التنازل عن السلطة إراديّاً بسبب فشلها في إدارة البلد وعدم قدرتها على إنقاذه، الأمر الذي يولِّد لوحده صدمة إيجابية ويؤدي إلى تنشيط الدورة الاقتصادية، وعلى رغم صعوبة هذا الخيار مع فريق على استعداد ان يبقى متربّعاً على كراسيه ولو «تَفكّكت أوصال الدولة». إلّا انّ هذا الخيار يبقى الأقل كلفة على هذه الأكثرية، ولبنان تحديداً، لأنّ خسارتها ستبقى محدودة ضمن نفوذها ومكاسبها، ويفترض ان يكون من مصلحتها عدم انزلاق البلد إلى الفوضى التي تدخله في مرحلة جديدة ومتفّلتة من أي ضوابط.


 
 

خيار إدخال لبنان إراديّاً في الفوضى بسبب تمسّك فريق ٨ آذار بمواقعه ونفوذه ومكاسبه، وعلى هذا الفريق، الذي يضمّ الثنائي الشيعي والعهد ومَن يدور في فلكهم، أن يدرك بأنّ مواصلة إمساكه بمفاصل الدولة لم يعد ممكناً. وهنا تصحّ مقولة الراحل الكبير سمير فرنجية انّ زَمن تسلُّط هذا الفريق «قد انتهى»، وإذا لم يدرك ذلك فإنه سيتحمّل مسؤولية إدخال لبنان في الفوضى، فلبنان أمام مرحلة جديدة وزمن جديد.