نالت حكومة حسان دياب ثقة المجلس النيابي في 11 شباط الماضي، يعني صار عمرها 51 يوماً، وعلى رغم هذه الفترة القصيرة، بدا وكأنّها خسرت شبابها و»ختيرت» قبل أوانها! فور تشكيلها قالت الحكومة أنّها ستقدّم أداءً إصلاحياً نوعيًّا لم يكن مألوفاً لدى الحكومات السابقة، ويشكّل المرتكز الأساس لمهمتها الإنقاذيّة التي حدّدتها لنفسها في مواجهة الأزمة الإقتصادية والماليّة التي تعصف بلبنان، تلغي من خلاله النفس الإستئثاري لدى بعض القوى النافذة في السلطة، وتحرم المعارضة من تسجيل أيّ مأخذ عليها، لا بل تدفعها الى تقدير ادائها والثناء عليه. وهنا قد يكون سها عن بال الحكومة انّ المبدأ الذي يحكم بعض المعارضة الداخلية مرتكز على قاعدة: «عنزة ولو طارت»!
 

على هذا الأساس، إنتظر البلد خطّتها الإنقاذية الموعودة، وتقاطعت مواقف معظم القوى السياسيّة على اعطاء الحكومة فرصة لتنتج. وتبعاً لذلك تحوّل السراي الحكومي الى حلبة اجتماعات متتالية؛ لجان تزاحم لجاناً، تجتمع مرتين وثلاثاً واربعاً حول موضوع واحد، ثم تعود الى الاجتماع من جديد حول الموضوع نفسه، وحلقات وزارية تتنقل بين غرفة واخرى، وفي الخلاصة، قرارات أقرب الى إعلان نوايا، ولا مبادرات، ولم يلمس الناس ما وُعِدوا به من خطوات، وخصوصاً في المجال الاقتصادي والمالي.

 

ومع هذا التأخّر، المستمر حتى الآن، كان سيف الأزمة يقطع بلحم الناس؛ غلاء فاحش، قدرة شرائية مفقودة، دولار يحلّق بلا رادع، مصرف لبنان يتفرّج على مافيا الصرّافين وهي تعدم الليرة، ويماشي لصوصية المصارف ويغطي جريمتها بمصادرة ودائع اللبنانيين، وعلى عينك يا تاجر بلا حسيب او رادع لها، وأما الحكومة فكأنّها في عالم آخر. هذه الصورة ماثلة امام الناس، ولا يُلامون أبداً إن عبّروا عن خيبة أملهم من تأخّر الحكومة في الإقدام على ما هو مطلوب منها واتهمّوها بالتقصير والعجز، ونظروا اليها كحكومة أقوال لا أفعال.. هذا بالفعل نبض الناس، ومع ذلك ما زالوا ينتظرون!

 

ليس خافياً انّ الحكومة من لحظة نيلها الثقة، دخلت مضمار العمل مضغوطة بثقل الأزمة، وسُجِّل لرئيسها جرأته في تحمّل المسؤوليّة في ظرف لا سابق له في صعوبته، وطريقها مزروع بالألغام، فمن جهة ملفات ثقيلة متراكمة، ومن جهة ثانية معارضة سياسية كامنة لها، وتراهن على سقوطها او إسقاطها في اي لحظة، وحتى في زمن «كورونا» ظلت تعزف على وتر الاستثمار السياسي، إضافة الى تباينات جذرية ضمن مثلث الاكثرية الذي شكّلها.

 

الخوف على الحكومة، لم يكن من المعارضة، لأنّها مشتّتة الى معارضات لكل منها وجهتها وتوجّهها، وحتى ولو كانت مجتمعة لا تملك قدرة إسقاط الحكومة، أو حتى إرباكها، وبالتالي طريق عودتها الى تولّي زمام السلطة مقطوع الى ان يقضي الله امراً كان مفعولاً.

 

بل انّ الخوف على الحكومة هو من انّ مكمن العلّة التي تهدّدها هو في داخلها، عبر عقلية بعض اطرافها التي ما زالت متمسكة بسلوك طريق النهج القديم الذي سبّب الأزمة المشكو منها اقتصادياً ومالياً. والمثال الصارخ تبدّى في التشكيلات القضائية التي جاء تعطيلها او تجميدها رئاسياً، لتشكّل اولى الصفعات لمبدأ الحيادية والنزاهة والكفاءة الذي رُفع لواؤه مع تشكيل حكومة دياب. وكذلك في الصفعة الثانية للحكومة، التي جاءت من باب التعيينات المصرفيّة، التي أُريد لنصفها المسيحي ان يكون مديناً بالولاء الى جهة معيّنة دون سائر الآخرين.
 

تُضاف الى ذلك «الخبرة المتواضعة» او بالأحرى «الطريّة العود» في قيادة السفينة الحكومية، والتي عكست نفسها في الإرباك الذي سبق اعلان قرار تعليق دفع سندات «اليوروبوند»، والذي كان الوصول اليه اشبه بعمليّة قيصرية، بعد الموقف المتسرّع القائل ما حرفيّته:» لن أسجّل عليّ في عهدي أنّ الحكومة تأخّرت عن دفع سندات الدين، حفاظاً على سمعة لبنان في الخارج». وكذلك الإرباك في ملف «الكابيتال كونترول»، الذي قسّم الحكومة بشكل واضح بين من سُمّيوا «وزراء الودائع»، الذين رفضوا اجراءات المصارف بحق المودعين، وبين «وزراء المصارف» الذين استماتوا لإقرار مشروع القانون الذي يشرّع إجراءات المصارف، ويعطيها صك براءة عن كل ما اقترفته بحق المودعين، وصولاً الى الإهتزاز الأكبر للحكومة التي تولّد عن مقاربة ملف اللبنانيين المغتربين في زمن «كورونا» وكيفية إعادتهم الى لبنان، التي وضعت الحكومة على «شوار»، قبل ان يتمّ تدارك السقوط في آخر لحظة. هنا تقتضي الموضوعية التنويه بأنّ الحكومة ابلت بلاءً حسناً في تعاطيها مع ازمة «كورونا»، ومشهود لها حضورها في معركة مواجهته ومكافحته.

 

امام هذه الصورة، ليس سرًّا انّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري، قرّر من اللحظة الأولى لتشكيل الحكومة، ان يشكّل رافعة لها، ووضع كل خبرته في خدمة إنجاح الحكومة في مهمتها الصعبة، لأنّ العاصفة الاقتصادية والمالية التي تضرب البلد وضعت الحكومة امام خيار من اثنين: اما ان تنجح، او تنجح. وفي هذا السبيل استضافت عين التينة سلسلة لقاءات متتالية بين رئيس المجلس ورئيس الحكومة. فكانت كلها سمناً وعسلاً، والتفاهم في أعلى درجاته، قبل أن يُصاب هذا التفاهم بشيء من التعكّر في موضوع المغتربين، والذي سرعان ما تبدّد و»صار وراءنا»، والمعلوم انّ موضوع المغتربين خط احمر بالنسبة الى بري، ولطالما ردّد «ما حدا يمزح معي او يلعب معي في هذا الملف»، وثمة تتمة لهذا الكلام: «لم يكن ما حصل قد حصل (رد الفعل العنيف الذي عبّر عنه رئيس المجلس في بيانه الذي لوّح فيه بتعليق مشاركة وزيريه في الحكومة)، لو انّ الحكومة قاربت هذا الملف منذ البداية بما يستحق من رعاية ومسؤولية، ووجدت له الحلول بطريقة منطقية وطنية وإنسانية».

 

الثابتة التي ما زال رئيس المجلس يشدّد عليها هي «دعم الحكومة، فما يهمّنا هو الّا تفشل، لأنّ هذا الفشل مُكلف على البلد كله، بل أنّنا نريد لها ان تنجح في مهمتها، وان تسلك المسار المؤدي الى إيصال اللبنانيين الى برّ الأمان». وتأكيد بري على ثابتة دعم الحكومة ورئيسها، دفعه الى ان يكون حاضراً على حلبة «تصويب المسار»، بعدما لاحظ انّه بدأ يميل في الاتجاه السلبي الذي يمسّ بهيبة الحكومة ويشوّه مهمتها الإنقاذية والإصلاحية، فحضر اولاً في ملف التشكيلات القضائية، عبر التأكيد على استقلالية القضاء وابقائه بمنأى عن المداخلات السياسية.


 
 

وحضر ثانياً في ملف سندات «اليوروبوند» وتحريم دفعها في الظرف اللبناني الصعب .»تصوّروا لو تمّ دفع مليار و200 مليون دولار اليوم، فأي وضع كنّا سنصبح فيه».

 

وحضر ثالثاً في ملف «الكابيتال كونترول» لجهة رفض خرق الدستور، والمس بودائع اللبنانيين المقدّسة، وبالتالي الإطاحة به وإسقاطه نهائياً.

 

وحضر رابعاً في ملف التعيينات من باب التصويب وعدم حرفها عن مبدأ الكفاءة والجدارة والعدالة، ورفض إعادتها الى خانة الاستئثار او المحاصصة.

 

وحضر اخيراً في ملف المغتربين بكل فئاتهم وانتماءاتهم المناطقية والطائفية والمذهبية «لأنّ حمايتهم حق وواجب على الدولة الأم لأن تحتضن ابناءها عندما يحتاجون اليها».

 

بري على استعداد لان يدخل مجدداً الى حلبة «تصويب المسار» إن كان ثمة موجب لذلك في اي لحظة وحول اي موضوع»، ويقول: «انا الآن اقف بكل ما أوتيت من قوة، ومسؤولية، كحارس لهذه الجمهورية».

 

يقول بري: «امامنا اليوم ازمتان؛ الازمة الاقتصادية التي لا بدّ ان تُواجه بحكمة وخطوات إنقاذية سريعة، وأزمة «كورونا» التي لا صوت يعلو اليوم فوق صوت مكافحتها، وكل من يتناول المستشفيات والجهاز الطبي والتمريضي العامل في هذا الاطار، بانتقاد او استخفاف او بالتقليل من شأنهم، نيّته خبيثة، لا تمسّ هؤلاء فقط بل كل المنكوبين بالوباء ومعهم كل اللبنانيين».