تتجاوز خطورة جريمة اغتيال انطوان الحايك البُعد الجرمي على خطورته بتصفية شخص مسالم، إلى تبرير بيئة سياسية هذا الاغتيال والاعتداد به والتهديد بتكراره.
 

إنتهت الحرب اللبنانية في العام 1990، وخرجت إسرائيل من لبنان في العام 2000، وانسحب الجيش السوري في العام 2005، والتزم «حزب الله» وَقف إطلاق النار مع إسرائيل منذ العام 2006 على أثر حرب تموز وصدور القرار 1701، ودخل لبنان منذ العام 2014 في تبريد سياسي بعد سنوات من الانقسام العمودي سيادياً واغتيالات سياسية استهدفت شخصيات سياسية وأمنية تنتمي إلى المحور السيادي.

 

وعلى رغم كل هذا المسار الطويل والحافل بالأحداث والتطورات، والذي كان يفترض أن يولِّد حالة من الوعي السياسي بخاصة بعد انتفاضة الناس في 17 تشرين الأول وقَرفها من كل شيء، والذي دفعها إلى رفع شعار «كلّن يعني كلّن» بسبب إيصال لبنان إلى الكارثة غير المتوقعة وعلى كل المستويات. وبالتالي، على رغم كل ذلك هناك من لا يزال يصرّ على لغة العنف والقتل والتصفية ورفض طَي صفحة الماضي والتخوين والتعامل مع الآخرين على قاعدة غالب ومغلوب، وتخييرهم بين تبنّي أدبياته وأيديولوجيته ونظرته، وبين اعتبارهم عملاء معرّضين للمحاسبة على يده متى شاء ذلك من دون أدنى اعتبار للدولة ومؤسساتها أو لمفاهيم التعايش والتفاعل والشراكة والعدالة والمساواة.

 

إنّ ما يفوق اغتيال الحايك فداحة يتمثّل بالتبرير المعلن لهذه الجريمة واعتبارها طبيعية طالما انّ الدولة تساهلت، بنَظر هذه البيئة طبعاً، مع فئة من اللبنانيين، ما يمنحها الحق بأن تأخذ مكان الدولة في إرساء العدالة بالقتل عمداً ورمياً بالرصاص، وتوجيه رسالة باتجاهات مختلفة: واحدة باتجاه واشنطن بأنّ الرَدّ على إخراج عامر الفاخوري حصل فوريّاً، وأخرى باتجاه المحكمة العسكرية ومن يقف خلفها بأنّ زمن الأحكام المخففة انتهى، وثالثة موجّهة إلى اللبنانيين في إسرائيل بعدم التفكير بالعودة، ورابعة إلى بيئة الحزب من أجل تنفيس احتقانها، وخامسة إلى كل من حوكِم ويعيش حالة طبيعية بأن يعيش في حالة من القلق بأنه في يوم من الأيام سيلقى مصير الحايك نفسه: 5 رصاصات في الرأس و7 في الجسد.

 

ولا يختلف جَو هذه البيئة عن المناخ الذي كان سائداً في البلاد إبّان الوصاية السورية على لبنان بإعلاء وجهة نظر واحدة وفَرضها على جميع اللبنانيين كحقيقة مُطلقة من دون الأخذ في الاعتبار تعدّدية المجتمع اللبناني التي تستدعي دائماً الوصول إلى مساحة مشتركة على غرار المساحة التي توصّلت إليها مكونات 14 آذار التي وضعت «زيحاً» بين حقبة ما قبل العام 2005 وما بعدها، هذا «الزيح» الذي كان يفترض وضعه في العام 1990 لطَي صفحة الحرب وفتح صفحة السلام، لكنّ الوَصيّ السوري حال دون ذلك.

 

فتسوية الطائف على غرار التسويات التي سبقتها، من ميثاق العام 1943 إلى تجاوز أزمة العام 1958، كان يفترض، لولا الانقلاب على هذا الاتفاق، أن تؤسّس لحالة وفاقية وتعيد الاعتبار لمشروع الدولة، وفلسفة التسوية معتمدة في كل دول العالم ومن دونها تبقى الشعوب في التقاتل والنزاعات إلى الأبد، فيما لا يمكن تجاوز الحروب إلّا على أساس تجاوز ما تخللها باعتبار انّ للحروب منطقها وسياقها وعالمها وظروفها القاهرة التي تختلف عن منطق السلام، ويستحيل الدخول في السلام الفعلي والحقيقي في حال لم تغلق صفحة الحرب نهائيّاً، وما نعيشه اليوم هو سلام مقنّع في ظل مواصلة أحد الأطراف الحرب بوسائل أخرى.

 

ومن ثم مَن أعطى الحق لفريق من اللبنانيين بأن يحدد ماهية المفاهيم ويفسِّرها على هواه وفي طليعتها مفهوم العمالة؟ فهل هناك مثلاً عميل بسمنة وعميل بزيت؟ وهل الذي يتعامل مع دولة عدوّة يختلف عن المُتعامل مع دولة «شقيقة»؟ أوَليس العميل هو كل من يبدّي مصلحة دولة أخرى على مصلحة بلده؟ وهل من مصلحة اللبنانيين فتح هذا الملف على مصراعيه من العمالة لمنظمة التحرير إلى العمالة لإسرائيل وسوريا وإيران وغيرها من الدول؟

 

فالعميل هو كل من يقدِّم مصلحة دولة أخرى على مصلحة بلده، وكل من ينفِّذ أوامر دولة خارجية ولا يلتزم بدستور وطنه، واللائحة طويلة على هذا المستوى، والحجج الأيديولوجية ساقطة ولا قيمة لها، لأنّ مفهوم العمالة واحد أوحَد، ومن سخريات الزمن أن يسمح العميل لنفسه بتصنيف الناس بين وطني وعميل.

 

ومن الأسباب الرئيسية للانهيار المالي الحاصل تغييب الدولة وإعلاء الأيديولوجيا على الدستور والقانون، فالانهيار كان مسألة حتمية مهما طال الزمن أو قصر، فإن لم تنهَرِالدولة بفِعل تفجُّر المساكنة بين الدولة والدويلة من باب الانقسام السيادي، فإنها ستنهار حكماً من الباب المالي والاقتصادي، وهذا ما هو حاصل اليوم، وقيامة لبنان مستحيلة إذا لم يعد الاعتبار للدولة، بدءاً من إمساكها بالقرار الاستراتيجي، وصولاً إلى تحقيق المساواة بين جميع اللبنانيين وإسقاط بدعة وجود طائفة مميزة على حساب الطوائف الأخرى، وصيف وشتاء تحت سقف واحد، وأبناء ست وأبناء جارية...

 

فهناك من لا يزال يصرّ على منطق الحرب والفرز معتقداً أنّ بإمكانه تخويف اللبنانيين ومواصلة سياسة الأمر الواقع، ورافضاً الأخذ في الاعتبار تجارب الحرب اللبنانية وما تلاها على مستوى الوصاية وكيف انتهت هذه الحقبة وتجربة «حزب الله» بعد العام 2005، وصولاً إلى إطلالة أمينه العام الأخيرة التي أظهرت الكثير من الواقعية التي اكتسبها بالتجربة المتّصلة بتعقيدات الحياة السياسية اللبنانية وتوازناتها الوطنية والطائفية والمذهبية.


 
 

فردود الفعل المغطّية والمبرِرة لاغتيال الحايك مُعيبة بحق «حزب الله» وبيئته أولاً وأخيراً، ويجب أن يدرك الحزب تأسيساً على التجربة اللبنانية الطويلة انّ هذا المنطق ليس فقط لا يبني وطناً، إنما لا يخوِّف أحداً، ويؤسّس لحرب لا لهيمنة، وفي الحروب الطائفية يتقلّص نفوذ كل فريق إلى داخل طائفته في تجربة مدمّرة لا يجب العودة إليها بتاتاً، بل يجب الاتِّعاظ لمرة نهائية بأنّ محاولات الغلبة والاستقواء والهَيمنة لا تستقيم في لبنان، وإن استقامت تكون مؤقتة وتؤسّس لحرب أو ثورة، لأنّ الأوطان لا تبنى إلّا على قاعدة المساواة أمام الدستور والقانون.