كيف يمكن إقناع لبناني، يجزم بأنّ الشمس تقتل كورونا، بأنّ الوقاية تمثل ثلثي العلاج؟ وكيف يمكن إقناع لبناني آخر، بأنّ الفيروس الذي يقترب من أن يُركّع دولاً كبرى، ليس أكثر من انفلونزا موسمية تتلاشى ببعض المسكنات؟
 

ما سبق عيّنة واقعية لكثير من الناس ممن تعاملوا مع الفيروس المرعب على الطريقة اللبنانية التقليدية، القائمة على خليط من وصفات الطب الشعبي أُضيف إليها، في عصر "السوشال ميديا" ملايين الرسائل النصية والمصورة و"المقالات العلمية" التي تحوّل فيها الكل إلى طبيب أو حتى خبير في العلوم الجرثومية.

 

الأخطر، حين تتحوّل "وجهة النظر" الفردية تجاه "كورونا" إلى ممارسات مجتمعية، تتدرّج من خروج جماعي غير آمن إلى صالونات التجميل وتصفيف الشعر في فترة "التعبئة العامة"، إلى ممارسة أكثر التقاليد اكتظاظاً، من أفراح، وزفة، أو ربما تهنئة جماعية بالشفاء من المرض!

 

مع ذلك، فإنّ اللوم لا يمكن أن يُلقى حصراً على مواطن ورث "حربقة" تاريخية تعود جذورها إلى عصر الفينيقيين، وتحوّلت إلى نمط حياة في كل شيء: عدم الإلتزام بالقوانين، التحايل على الإجراءات، إدّعاء الفهم في كل الشؤون... إلى آخر تلك الممارسات التي يختزلها مشهد بانورامي لتقاطع طرق تعطّلت فيه إشارات المرور!

 

في الواقع، لا شيء يمكن أن يعفي المواطن مما سبق غير المثل الشعبي "الثلم الأعوج من الثور الكبير".

 

ينطبق ذلك باختصار على التعامل الحكومي مع أزمة "كورونا" المتفاقمة يوماً بعد يوم، على نحو لا ينفع معها، آخذاً في الحسبان الخصوصية اللبنانية، كل حملات النصح أو حتى التوبيخ الذي اختُزل في "هاشتاغات" التواصل الاجتماعي، وأولها "خليك بالبيت".

 

بصرف النظر عن التباهي الحكومي بأنّ إجراءات مواجهة أزمة "كورونا" قد لاقت إشادة من "منظمة الصحة العالمية"، وهو ما بات لازمة كل التصريحات الرسمية بشأن الفيروس، فإنّ التجربة التاريخية أظهرت، في كافة الملفات، أنّ الواقع اللبناني لا يُقاس بأي معايير عالمية، لا على مستوى الأداء الحكومي التقليدي، على نظرية غبية تقوم على انتظار الكارثة بدلاً من الاستعداد لاحتمالاتها، والتي تبدّت خلال الأيام القليلة الماضية في استفاقة حكومية متأخّرة إلى أزمات المستشفيات الحكومية، وبضعف المنظومة الاستشفائية بشكل عام.

 

إذا كان "درهم الوقاية خير من قنطار العلاج" قد تحوّل إلى عنوان أساسي للسردية الدعائية التي تُعمّم اليوم على اللبنانيين، فالأولى كان أن تُستثمر الملايين التي نُهبت، في "الوقاية" من الكارثة الصحية التي نقترب منها.

 

ليس الوقت للمحاسبة، ومن المؤكّد أنّ الحكومة الحالية لا تتحمّل مباشرةً سنوات الإهمال، وسياسات النهب التي تبدّت بالأمس في مشهد "الكوميديا السوداء" الذي أغدقت فيه المصارف على اللبنانيين نعمة الستة ملايين دولار التي تبرّعت بها للمساعدة في جهود التصدّي للوباء، في وقت تحول بين اللبنانيين وودائعهم المحجوزة لديها!

 

وإذا كان الوقت الحالي ليس للمحاسبة على ما مضى، فإنّ ذلك لا يعني أنّ الوقت غير مناسب لكي تُظهر الدولة اللبنانية حزماً، يجعل من الحالة الوبائية فرصة لكي تُظهر شيئاً من هيبتها المفقودة طوال سنوات.

أولى خطوات المواجهة، تتمثل في تفعيل حالة الطوارئ، بكل ما تعنيه من إجراءات وازعة أمام تفلّت لم تضبطه "التعبئة العامة" و"حظر التجول الذاتي" بكل تبعاتهما الإجرائية، التي لم تجعل المواطنين يلتزمون بالحجر المنزلي في أدق مرحلة يمكن أن يمرّ بها المجتمع، والتي من شأنها أن توحّد إجراءات الوقاية من الخطر الذي بات على عتبات المنازل، بدلاً من "فدرالية" الإجراءات القائمة حالياً، والتي تجعل التفاوت في التصدّي للحالة الوبائية، والتي تترك المجال مفتوحاً أمام استنسابية خطيرة، تفوح من بعضها رائحة طائفية، تضع اقتراحات من قبيل عزل بعض المناطق، كإجراء مركزي، في ميزان الحسابات الطائفية، امام عدوٍّ لا يميّز بين البشر على أيّ أساس.

 

ما الذي يمنع إعلان حالة الطوارئ؟

 

السؤال يتردّد على كل لسان، ولا يلقى من إجابة سوى "فلننتظر" حتى انتهاء فترة "حالة التعبئة".

 

"فلننتظر" نفسها أوصلت البلاد إلى حافة الكارثة. قيلت يوم علت الأصوات لإغلاق المنافذ الجوية والبرية والبحرية، أسوة بكثير من الدول التي ما زال الوباء فيها ضمن الحدود المقبولة. قيلت أيضاً يوم طالب المختصون بتفعيل إجراءات العزل للوافدين المشكوك باحتمالية اصابتهم بالفيروس، كما فعلت دول عدّة، اتخذت إجراءات عاجلة وصلت إلى حدّ فرض عقوبة السجن لمنتهكي الحجر... وقيلت أيضاً يوم طالب كثيرون بما تأخّر مجلس الوزراء عن إقراره شهراً على الأقل!

إذا كانت خلفية "فلننتظر" مبنية على قُصر النظر إزاء ما ينتظر لبنان من تفش للحالة الوبائية فتلك كارثة، وإذا كانت خلفيتها ما يتردّد همساً عن حسابات سياسية تحول دون إعلان "حالة الطوارئ"، فالكارثة أضخم بكثير.

 

ربّ قائل بأنّ إعلان حالة الطوارئ، واستلهام التجربة الصينية في احتواء "كورونا"، فكرة غير قابلة للتطبيق في لبنان.

 

هي وجهة نظر صحيحة، إذا ما نظرنا إلى مقوّمات الصمود التي وفّرتها الدولة الصينية لمواطنيها المحجورين قسرياً. على الأقل، لم يحتج هؤلاء إلى "إعاشة" الـ50 دولاراً التي كان اللبنانيون، عشية قرار المصارف إقفال أبوابها، يتسوّلونها على أبواب أباطرة المال (ولربما أصيب بعضهم بالكورونا في الطوابير).

 

هي أيضاً وجهة نظر صحيحة، إذا ما أخذنا في الحسبان أنّ معدلات الفقر في لبنان تجاوزت الـ60 في المئة، وبأن بعضاً ممن يخرقون "الحظر الذاتي" يقومون بذلك بحثاً عن لقمة عيش أبنائهم في ما تبقّى من وطن، فكيف الحال إذا ما اضطر الكل إلى ملازمة منازلهم إلى أمد غير محدّد؟

 

سينجو هؤلاء من "فيروس كورونا" ليموتوا بـ"فيروس الجوع". ولكن ما بين "الفيروسين"، فإنّ فرص النجاة من "كورونا" بالنسبة إلى الغالبية الساحقة، تبدو أعلى من فرص النجاة من "الجوع". بهذا المعنى، لن يصبح مفيداً بعد اليوم إلقاء المسؤولية على المواطن العادي في تفشي الوباء.

 

يتفرّع مما سبق سؤال جوهري: هل تستطيع الحكومة اللبنانية أن تواجه "فيروسين" في آن معاً؟!

 

الإجابة بسيطة للغاية: نعم!

 

كيف؟

 

عبر دخول الحكومة من باب "الطوارئ"، إلى ساحة حرب مزدوجة، تخوض فيها معركتين متلازمتين وحاسمتين، تحارب في الأولى فيروس "كورونا" بما يتيسر لها اسوة بسائر دول العالم، وتحارب في الثانية الـ"فيروس"، الذي يتمثل في السياسات الاقتصادية الناهبة، التي تكشّف معها عجز الدولة اللبنانية عن تأمين المستلزمات الضرورية لمواجهة وباء خبيث مثل "كورونا".

 

طبعاً، هذا الجواب يبقى في خانة التمنّي، لأنّ التجربة اللبنانية اثبتت انّ كل تلك السياسات هي الابن الشرعي للحكومات السابقة، والحكومة الحالية، حتى ولو أرادت محاربة تلك السياسات، فلن تجرؤ على ذلك، وإن أقدمت ستُتهم فوراً بأنّها تمسّ بالمحرّمات، وسيُحكم عليها بالشنق، من قِبل بعض المحميات السياسية والصروح الطائفية والمذهبية!