"الخوف نصف المرض" ابن سينا
"يبقى تفكير المرء ساذجًا ما دام لم يفكِّر في الدوافع الاقتصاديّة للأحداث".
 
نروِّج منذ مدّةٍ لمقولةٍ، مفادُها أن لا شيءَ في عالمي الاقتصاد والسياسة يحصل بالمصادفة. وكنتُ قد تنبَّأتُ مرارًا منذ سنتيْن: 
 
"على الأرجح، سنشهد خلال العقد المقبل امتلاك أفرادٍ بعينهم لألف مليارٍ من الدولارات لكلّ واحدٍ!". (وجديرٌ بالذكر أنَّ رقم ال١٠٠ مليارًا قد حقَّقه كثيرون حتى وصلت ثروة بعض الأفراد إلى ١٥٠ مليارًا).
 
هذا لعَمري رقمٌ مهولٌ لا تستطيع غالبيّة دول العالم امتلاكه فكيف إذا امتلكه فردٌ بعينه!؟ لكن كيف يمكن لفردٍ أن يمتلك هذا المبلغ الهائل الذي لا يمكن أن تتخيَّله مخيّلتُنا العاديّة؟ بالتّأكيد، لن يمتلكه بعرق جبينه!
 
قلنا إنّ الرَّأسماليّة تجدِّد نفسها ولا تحمل بذور فنائها كما قال بذلك الرّفيق ماركس. وهذا التجدد مظهرٌ من مظاهر قوتها. هذا صحيحٌ. لكنّها تتعرّض دائمًا لأزماتٍ دوريّة كبرى، ومع ذلك تنهض دائمًا من تحت الأنقاض. وآخر أزمةٍ كبيرةٍ تعرّضت لها الرّأسماليّة كانت مع الأزمة الماليّة العالميّة في العام ٢٠٠٨. وقتها انهارت الأسواق الماليّة العالميّة ووصل الداو جونز مثلًا (أحد مؤشرات الأسهم الأمريكيّة الكبرى) في هبوطه الحاد إلى ما يقارب ال٦ آلاف نقطة بعد أن بلغ ذروته مع ١٤ ألف نقطة في العام ٢٠٠٧. 
 
كادت أمريكا أن تنهار مع أزمة الرّهن العقاري في العام ٢٠٠٨. فتدخلت الدولة الفدراليّة ووجَّهت الاقتصاد. وهذا أمر يتنافى مع أبسط مبادئ الاقتصاد الليبرالي. وبدأ البنك الفدرالي الأمريكي برامج للتيسير الكمّي (طبع كميّاتٍ هائلةٍ من الدولار من دون حتى أن يوازيها قوةٌ في الاقتصاد) وشراء الأصول الهالكة. عندئذٍ، بدأ الاقتصاد الأمريكي يتعافى وأخذت الأسهم الأمريكيّة تشهد صعودًا مستدامًا إلى أن تجاوزت قممها ومستوياتِها التّاريخيّة السّابقة وحقّقت مستوياتٍ وقِممًا قياسيّةً متتاليةً حتى وصل الداو جونز إلى ١٨ ألف نقطة قبل مجيء ترامب. ولحقت بها الأسواق العالميّة.
 
مع مجيء ترامب، وفي ليلة انتخابه بالذات انهارت العقود الآجلة الأمريكيّة بعدما أيقنت الأسواق فوز ترامب في الانتخابات الرّئاسيّة حيث كانت تعتقد الأسواق المالية أنّ ترامب لا يناسبها وأنّ هيلاري كلينتون هي التي ستدفع بالأسواق قُدُمًا نحو الارتفاع. لكنّ الأمر اختلف تمامًا مع افتتاح الأسواق الأمريكيّة في اليوم التالي، أي مع افتتاح الأسواق الحقيقيّة حيث بدأت الأسهم الأمريكيّة موجاتٍ من الصعود المتتالي والمتواصل من دون أيّ جني أرباحٍ حقيقيٍّ حتى وصل الداو جونز في الفصل الرابع من العام ٢٠١٩ إلى ما يساوي تقريبًا ثلاثين ألفَ نقطة!!
 
قد تكون القصة، إذًا، بدأت مع ترامب حيث كان من المتوقّع أن تنهار الأسهم الأمريكيّة. لكنّها تضاعفت تقريبًا إذا احتسبنا المستوى المتدنّي الذي بلغته العقود الآجلة في ليلة الانتخاب. بنتيجة هذا الصعود الهائل والمتواصل كان لا بد من عمليّةٍ معاكسةٍ لجني الأرباح. فقد زادت قيمة الأسهم الأمريكيّة والعالميّة عشرات تريليونات الدولارات. ومع ذلك لم تحصل عمليّةُ جنيِ أرباحٍ حقيقيّة (من جهتنا كنّا نتوقّع منذ سنتيْن قرب حدوثها، لكنّها تأخرت كثيرًا). 
ماذا تعني عمليّة جني الأرباح؟
 
إنّها تعني أنَّ السوق يصحِّح ويشهد هبوطًا حادًّا.  هذا يعني أنّ أسعار الأسهم ستهبط بشدّةٍ كما هو حاصلٌ الآن. هذا يعني أنَّ هناك مَنْ سيخسر (وهؤلاء بالملايين) وهناك مَنْ سيربح! (وهؤلاء قلَّةٌ قليلةٌ من صنّاع السّوق والعارفين بحقيقة الأسواق الماليّة العالميّة).
 
لنؤكِّد منذ البداية حتى لا نُفهمَ خطأً: فيروس كورونا حقيقيٌّ ومرعبٌ وفتَّاكٌ. لا شكّ في ذلك. أصاب مئات الآلاف وتسبَّب بموت بضعة آلاف. ومن المرجّح أن يزداد رقم الوفيّات بشكلٍ دراماتيكي: عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف! بناءً عليه، الفيروس حقيقيٌّ وخطير. لكنَّ استثمار حدث الفيروس مفتعلٌ ومقصود. 
 
تعيش الحضارة المعاصرة على إنتاج الوهم أكثر من إنتاج الحقيقة. وقد ساعدتها التكنولوجيا في ذلك. فوسائل الإعلام التقليديّة ووسائل التواصل الاجتماعي قادرةٌ على جعل الوهم حقيقةً. فهي تعمد إلى المبالغة الشديدة في استثمار أيِّ حدثٍ من أجل مآربَ اقتصاديّة. بناءً عليه، فإنّ القوى الرّأسماليّة التي تتحكّم بمقدرات الكوكب تتعمّد استثمار أيِّ حدثٍ يناسبها من أجل تحقيقِ أرباحٍ طائلة.
 
 
لقد مات بسبب فيروس كورونا بضعة آلافٍ في مدّةٍ قصيرة. بالمقابل مات بسبب أمراضٍ أخرى أضعاف هذا العدد في المدّة ذاتها. لكن لماذا يتمّ التركيز على فيروس كورونا ولا يتمّ التركيز مثلًا على فيروس السيدا أو الإيبولا أو أمراض القلب أو حتى على ضحايا حوادث السير؟ بكلّ بساطةٍ لأنّ كورونا وحده قادرٌ على خلقِ حالة هلعٍ في الأسواق العالميّة. معه يتعطل النشاط الاقتصادي العالمي ويدُبُّ الذعر في البورصات العالميّة فتنهار أسهم الشركات بشكلٍ مريعٍ وتخسر الأسواق العالميّة عشرات التريليونات من قيمتها السّوقيّة في برهةٍ قصيرةٍ لا تتجاوز الأسابيع من دون أن يتأثر الاقتصاد الحقيقي تقريبًا أو يتأثّر بشكلٍ طفيف (إنْ هي إلّا أرقامٌ تتغيّر بسرعةٍ على الشاشة الافتراضيّة!).
 
إذًا، هناك مَنْ سيخسر ويبيع أسهمه بأسعارٍ متدنيةٍ. وهناك مَنْ ينتظر انفجار فقاعة الأسهم العالميّة التي انطلقت مع مجيء ترامب ليعيد شراء الأسهم بأسعارٍ هابطةٍ ومتدنيةٍ! هذه الأسهم ذاتها التي باعها هذا البعض بأسعارٍ مرتفعةٍ جدًّا من قبلُ عندما كانت أسعارها مرتفعة. ملايين ينامون أغنياء ويستيقظون فقراء. وقلّةٌ قليلةٌ تنام ثريّةً وتستيقظ وقد ازدادت ثراءً فاحشًا. ولا ضير في عقيدة هؤلاء من فقدان بضعة آلافٍ من النّاس أرواحهم الغالية فقط على قلوب أحبَّائهم.
 
 
فهذا يحدث يوميًّا وبشكلٍ أكبر في حوادث السير وأمراضٍ كثيرةٍ أخرى. ولْتنزلْ رحمة الله على الأرواح المفقودة! لكنّ المهم أن تحقِّق القوى الرّأسماليّة المتحكِّمة بالاقتصاد العالمي ثرواتٍ طائلةً تُضاف إلى ثرواتها الهائلة. هكذا تزداد ثراءً وقوّةً وتصبح أكثر قدرةً على التحكم بمقدرات الاقتصاد العالمي، بل وتصبح من صنّاع السوق الكبار الذين لا قدرة لأحدٍ على مقاومتهم. إنّهم ديناصورات الأسواق العالميّة. بذلك تضعُفُ الدول والحكومات والسلطات المنتخَبَة أمامهم. وتتراجع الحداثة (أعني الحريّات العامّة وحقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسّسات) أمام جبروتهم. عندئذٍ، تصبح الانتخابات الديمقراطيّة أُلعوبةً بأيديهم فهم يساهمون في "تعيين" رؤساء الدول ووزراء الماليّة وحكام البنوك المركزيّة. وبعد أن يحقِّقوا أرباحًا طائلةً تبدأ دورة صعودٍ جديدةٌ للأسهم العالميّة حتى تتكون فقاعةٌ أخرى من جديد. وهكذا دواليك! لا يشبع الرّأسمالي من المال الذي يعطي معنًى لحياته. فيطلب المزيدَ منه دائمًا حتى لو كان على حساب الدول والشعوب والفقراء. إنّها لعبةٌ اقتصاديّةٌ لا ترحم كبيرًا ولا صغيرًا. فكلّ مَنْ يملك دولارًا عليه أن يتنازل عنه إلى هذه القوى الاقتصاديّة غير المرئيّة التي تعيش في الغرف السوداء غير آبهةٍ بمصير المليارات من البشر.
قلنا إنّ الرّأسماليّة عَرَفت كيف تستثمر نبتة الجشع ونبتة الخوف ونبتة الأمل. عند صعود الأسهم تستثمر نبتة الطمع والجشع في الإنسان فتغري كثيرين ليشتروا الأسهم بأسعارٍ مرتفعةٍ أملًا في مزيدٍ من الارتفاعات والأرباح. ولكي تهبط أسعار الأسهم وتنهار أسواق المال لا بدّ من الاشتغال على عامل الخوف لدبّ الذعر لدى المتداولين وخلق حالةِ هلَعٍ في الأسواق العالميّة التي خسرت حاليًّا في غضون أسابيعَ قليلةٍ عشرات تريليونات الدولارات. خسر من خسر وربح من ربح! فهذه هي الحياة في عرف هؤلاء! فالهدف هو جمع مزيدٍ من المال! إنّه إلههم الذي يعبدونه!
 
بناءً على ما سبق، نرى أنّ هناك مبالغةً شديدةً في التعامل مع فيروس كورونا. ولعلّ الذين سيموتون بسبب الذعر الذي تسبِّبه وسائل الإعلام أكبر بكثيرٍ من الذين كانوا سيموتون فيما لو تُرِكت الأمور من دون هذه المبالغة الشديدة. فهناك أناسٌ كثيرون يتملّكهم الخوف بشدّةٍ. ومن المعروف أنّ الخوف يُنْقِص المناعة في الجسم فيصبح أكثر عرضةً لمهاجمة الفيروسات وفتكها (وعلينا بعد انتهاء الأزمة إعادة تأهيل النّاس للتخلّص من وسواس النظافة ومن الخوف).هل وسائل الإعلام متواطئةٌ مع هذه القوى العالميّة التي تتجاوز الدول؟ لا أستبعد ذلك بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. قد يهزأ البعض منّا! إلى هذا البعض الذي يستخف ويسخر من تحليلنا نقول له: ألم نعش في لبنانَ قصةَ وهمٍ طويلٍ ومديدٍ ولذيذٍ لأكثر من ربع قرنٍ مع حاكم مصرف لبنان الذي أقنع الجميع بقدرته على اجتراح المعجزات واستمال إلى جانبه الإعلاميين والقضاة والطبقة السياسية بكاملها؟ بلى! والأنكى من ذلك أنّ هناك مَنْ كان يوزِّع له جوائزَ سنويّةً بوصفه أفضل حاكم مصرفٍ مركزيٍّ في العالم. انطلت الخدعة على الجميع. ووقع الجميع في الفخ! ويعيش اللبنانيون اليومَ أسوأ كارثةٍ ماليّةٍ في تاريخهم. لكن علينا أن نذكِّر اللبنانيّين الذين خسروا كلّ شيءٍ بأنّ هناك فئةً قليلةً جدًّا استثمرت هذا الوهم الجميل وربحت المليارات بالسرقة والاحتيال. هذا ما يحصل حاليًّا في الأسواق الماليّة العالميّة مع أنّ فيروس كورونا حقيقي. لكن باستثمار هذا الحدث والمبالغة في عامل الخوف نخلق فيروسًا وهميًّا ونصبح جميعًا مرضى الوهم! نعم مرضى الوهم ومرضى بالوهم! هكذا تسير الأمور من فخٍّ إلى فخٍّ، ومن أزمةٍ إلى أزمةٍ ومن وهمٍ إلى وهمٍ!
كونوا أقوياء! ولا تدعوا الخوف يفتك بكم أكثر من الفيروس نفسه! وتذكّروا دائمًا أنّ هناك دائمًا مَنْ يستغلّ عذاباتكم ويستثمر في خوفكم!