لمصلحة من هذا الامر في ظل انكشاف أن ما يعرقل ولادة تشكيلة حكومة الاختصاصيين بالإستشارات هو الخلاف السياسي والحزبي على الحصص والأوزان والتوازنات.
 
 
لا شيء يعني اللبنانيين سوى غليان الشارع ومشاهد ما يحصل في بيروت من مواجهات تتكرر وتتنقل من مكان الى آخر؛ وتنذر بالأخطراذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه، فالتعقيدات تزداد والضغوط المالية والاقتصادية والنقدية والمعيشية تكبر، فيما حتى الساعة تتوقف البلاد عند تناتش الحصص والحسابات السطلوية؛ والخاسر الأكبر لبنان.
لبنان منذ ثلاثة أشهر ودخل في الشهر الرابع يواجه أزمة مالية وأزمة سلطة واسعة، وبعد استقالة حكومة سعد الحريري، يحاول الرئيس المكلّف تشكيل حكومة جديدة. حيث حاولت الطبقة السياسية، وفي طليعتها حليفا حزب الله في لبنان، التيار الوطني الحر، و حركة أمل التلاعب على شكل الحكومة عبر بدعة تلو الأخرى، فكان لهم شارع الثورة بالمِرصاد.لقد أتوا برجلٍ بيروقراطي لتكليفه تأليف حكومة مقنَّعة باختصاصيين فيما هي في معظمها حكومة لمجموعة من المستشارين والمساعدين للقيادات السياسية نفسها فأتت الخدعة لتنقلب على أصحابها. لا الأوروبيون تجاوبوا معهم. ولا الثوّار رضخوا لمعادلة التخويف والاستنزاف والإرهاق والاستنفاد والإنهاك التي اعتمدها جميع رجال السلطة المتأصّلين في الفساد والمحاصصة والاستفادة من تأجيج الطائفية والمذهبية. لذلك شعار الثورة هو التخلّص من كامل الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكّمة الرافضة مغادرة السلطة كان هو كلّن. كلّن يعني كلّن. 
 
لكن هل تحجب صورة وسط بيروت المشتعل ليلة السبت الاحد الماضي السؤال البديهي المطروح بقوة برسم سلطة منهمكة بحساباتها اذا ما كان مشهد الوسط المحترق تحت وابل المواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية قد اطاح الطابع السلمي الذي اتسمت به انتفاضة السابع عشر من تشرين الاول الماضي وحتى الامس القريب، والى اين ستأخذ هذه المواجهات البلاد التي باتت مكشوفة امنيا وسياسيا، مهددة المتظاهرين السلميين بقمع حراكهم بالقوة، بعدما غيبت السلطة السياسية صوتهم الصادح على مدى اكثر من ٣ اشهر، عن مفاوضاتها الحكومية لتأليف الحكومة العتيدة، التي لن تكون وفق كل المعطيات المتوافرة عنها، الا نسخة منقحة للحكومة المستقيلة، بعدما سقطت عنها الصبغة الائتلافية التي جمعت الشركاء في التسوية على طاولة مجلس الوزراء، وابقت التمثيل حصرا بيد فريق اللون الواحد. فمشهد التخريب الممنهج الذي ضرب بيروت على مدى ساعات من دون توقف، أثار تساؤلات شديدة القلق عمن يقف وراء تفجير الوضع بين القوى الأمنية والمتظاهرين، وكيف سمحت الانتفاضة لنفسها بتسلل مجموعات تخريبية قامت بأسوأ تشويه للانتفاضة منذ نشوئها، عبر عمليات الحرق والتعدي على الممتلكات العامة والقوى الأمنية .
وفي حين اختلط حابل المتظاهرين بنابل مجموعات مندسة تعددت على ما يبدو هوياتها ومرجعياتها، ثمة من اثار شبهات حيال تورط أطراف في السلطة بهدف استباحة الامن في بيروت وفي وسطها تحديدا، لما يحمله من رمزية، لتمرير حكومة رفضتها الانتفاضة مسبقا. الاكيد من مشهد التظاهرة التي بدأت سلمية من خلال تجمعات انطلقت من اكثر من منطقة لتصب امام البرلمان، انها استحقت امس بجدارة الترقي الى مرتبة الثورة،لأن الطابع الثوري لا يمكن ان يكون سلميا، بل غاضب وعنفي، وليس ما شهدته بيروت امس الا الشرارة الاولى لغضب مكبوت. فالمواجهات كانت مكشوفة بين المتظاهرين والقوى الأمنية، فيما بقيت إعداد كبيرة من هؤلاء محيدة نفسها عن المواجهات. وتطورت الامور مع مرور ساعات بعد الظهر الى المساء لتستعمل القوى الأمنية القنابل المسيلة للدموع. ولم تنجح في تفريق المتظاهرين، بحيث تطورت الامور في شكل متسارع، لتسجل اعمال تكسير وشغب وأضرار بالأملاك العامة، وصولا الى اندلاع حرائق حولت ساحة الشهداء الى ساحة حرب حقيقية بالمفرقعات والأحجار، حتى حسمت القوى الأمنية الوضع بعدما أدى الى سقوط العشرات من الجرحى في صفوف القوى الأمنية والمتظاهرين. وخطورة هذا المشهد انه بات حالة يومية تتكرر وسط غياب كلي لأي قرار سياسي، باستثناء وضع المتظاهرين في وجه القوى الأمنية. 
إن مشهد الشارع المرشح للتصعيد،بهدف حجب الأنظار عن المشهد الحكومي الغارق في حسابات محاصصة لا تزال تعقد عملية التأليف، من دون تعطيل المشاورات التي استمرت بعيدا من الاضواء وسط مفارقة فاقعة ان الاهتمام السياسي ظل منشغلا بحسابات القوى، معولا على ان تؤدي المواجهات في الشارع الى ضرب الانتفاضة وقمعها بالكامل، لتنصرف السلطة الى تنفيذ أجنداتها الخاصة.إن ما يحتاجه لبنان  في هذه المرحلة أنه يحتاج الى حكومة مؤلفة من فريق من النوابغ والشخصيات الاستثنائية، يمتلكون الجرأة على المعالجة الجذرية لاحتياجات لبنان.
 
 لأن الشخصيات المُحترمة المستقلة لا تكفي إذا كانت ضعيفة أو مُنصاعة. المعضلة ان مثل هذه الحكومة لن تكون مقبولة لدى الطبقة السياسية بكاملها، وفي مقدمتها حزب الله لأنها تسلبه من الهيمنة على القرارات المصيرية للبنان كما تقتضي المصلحة الإيرانية. وفيما لم يكن عابراً كلام كوبيتش عن أعمال شغب متلاعَب بها سياسياً، فإن هذا الاحتقان الكبير لم يبدُ كافياً للائتلاف الحاكم للإسراع بتأليف حكومة فرْملها فعلياً شدّ حبال حول الثلث المعطّل بين أطراف حكومة البيت الواحد، وصولاً إلى وصْف الأوساط المطلعة كلام الرئيس المكلف، وربْطه الإصرار على رؤيته لحكومة الـ18 اختصاصياً بعدم إمكان القفز فوق مطالب الانتفاضة، بأنه أقرب إلى معركة طواحين الهواء،فلمصلحة من هذا الامر في ظل انكشاف أن ما يعرقل ولادة تشكيلة حكومة الاختصاصيين بالإستشارات هو الخلاف السياسي والحزبي على الحصص والأوزان والتوازنات.