اللعب على وتر الفتنة كاد أن يأخذ البلد مراراً إلى المجهول وإلى حروب عبثية دفع ثمنها غالياً في العقود الماضية.
 
بعد أقل من اسبوع على إنطلاق الإحتجاجات في الشارع، كثر الكلام والإتهامات بشأن قيام بعض الاحزاب بركوب مَوجة الإحتجاجات والتظاهرات إنتقامًا من العهد وأحزاب أخرى،ولم تقف الامور عند هذا الحد بل تخطتها الى توجيه الاتهامات بالتنفيذ لأجندات سياسيّة لا علاقة لها بأصل الانتفاضة الشعبيّة التي ساهم فيها الكثير من اللبنانيّين، لأسباب مَعيشيّة وحياتيّة محض. ومع الوقت، تحوّل جزء كبير من هذه الإتهامات إلى الخارج.
 
وفي هذا السياق، صار التركيز حاليًا على وُجود مُؤامرة دَوليّة تُريد ضرب الإستقرار في لبنان، والتسبّب بإنهياره إقتصاديًا وماليًا، لتنفيذ عدد من الأهداف، بدءًا بإخراج حزب الله من السُلطة وإضعاف نُفوذه، مُرورًا بدفع لبنان إلى تطرية مواقفه من ترسيم الحُدود وإستخراج النفط والغاز، وُصولاً إلى إرغام لبنان على المُوافقة على إملاءات صفقة العصر المُرتقبة مثل إبقاء اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه، وعلى إملاءات التفاهمات الإقليميّة والدَوليّة المُنتظرة أيضًا، مثل إبقاء النازحين السُوريّين في الدول التي تستضيفهم. 
 
لكنّ وبغضّ النظر عن مدى صحّة هذه الأقاويل والإتهامات، وعن مدى إمكان تنفيذها، لا بُدّ من التوقف والسؤال عن الأسباب التي تدفع باصحاب هذه الاتهامات، إلى السير ، بمفاعيل هذه المؤامرة إنّ صح وُجودها أصلاً، بدلاً من مُواجهتها والقضاء عليها في مهدها!.
ففي مُقابل الإتهامات التي تطلقها بعض الجهات بشأن إنصياع رئيس حكومة تصريف الأعمال لمطالب قوى خارجيّة مُتهمة بالتآمر على الوضع اللبناني، يستغرب الرافضون لهذه النظريّة التمسّك بتكليف الحريري، وإلصاق هذه التهمة به في الوقت عينه! وبالتالي،السؤال إمّا الحريري مُنصاع لإملاءات الخارج ويجب التخلّي عنه، وإمّا هو الخيار الأوحد المُتاح، ما يستوجب وقف كل أنواع المُناورات والتهويل بالحديث عن حكومة لون واحد، وعن خيارات أخرى غير الحريري، والعمل على التفاهم مع هذا الأخير على قاعدة حكومة إنقاذيّة، لأنّ التجاذبات السياسيّة لا تعني المُواطن اللبناني الباحث عن لقمة عيشه على الإطلاق.
 
فالمطلوب حُكومة تُركّز كل إهتمامها على إطلاق ورشة مُعالجة الوضعين الإقتصادي والمالي، وعلى مساعي إنقاذ الوضعين المعيشي والحياتي للمواطنين اللبنانيّين. وبالتالي، لا مُبرّر للخوف من حُكومة مُستقلّة، إذا جرى التوافق مُسبقًا ، وعلى أن تكون مهمّتها مَحصورة بفترة زمنيّة إنتقالية لإستعادة الثقة. 
 
مرة جديدة تعيش الانتفاضة اختبار الشارع، بعدما تحوّل جسر الرينغ في وسط بيروت بالامس القريب إلى ساحة معركة خاضتها حرب الشعارات واستعراضات الهتافات والهتافات المضادة. ولكن من المستفيد من تحريك الشارع غرائزياً هذه المرة؟ بعدما نزل الشعب اللبناني بمختلف اطيافه إلى الساحات مطالباً بالعيش الكريم وبلقمة عيشه وببلد خال من الفساد. وهل يُعقل لمواطن جائع أن يواجه مواطناً جائعاً آخر حتى ولو اقتضى الأمر سقوط دماء؟ 
 
ليس من رابح في معركة كهذه حكماً، فاللعب على وتر الفتنة كاد أن يأخذ البلد مراراً إلى المجهول وإلى حروب عبثية دفع ثمنها غالياً في العقود الماضية.
 
مرة جديدة تصل البلاد إلى حافة الهاوية وتتحول بيروت إلى أرض اقتتال باللحم الحي واشتباكات بالعصي والتضارب ورمي الحجارة، في حين لا تزال القصور المعنية غائبة عن السمع لا مبالية ولا تقوم بأدنى واجباتها بعودة انتظام الحياة.
 
في الخُلاصة، الناس في لبنان سئمت تمامًا من الصراعات والمُناكفات السياسيّة، بكل مُستوياتها الداخليّة والإقليميّة والدَوليّة، وهي لم تعد تُبالي سوى بلقمة عيشها المُهدّدة جديًا في هذه المرحلة، في ظل التفاقم المُستمر والسريع للأوضاع الحياتية والمعيشيّة. ومن لا يزال يتمسّك بموقع رسمي هنا، وبمكسب سياسي هناك، سيتفاجأ قريبًا أنّ النقمة الشعبيّة الفعليّة لم تنفجر بعد، وأنّ ما حصل حتى تاريخه ليس سوى رأس جبل جليد الغضب الشعبي المُتنامي، ما لم يُبادر المسؤولون المعنيّون-كلّهم من دون إستثناء، إلى وقف لعبة الكباش السياسي فورًا، وإلى العمل معًا على ما يُمكن إنقاذه–إذا كان الوقت لا يزال مُتاحًا لفرصة الإنقاذ أصلا! 
 
فكيف يُمكن الخروج من هذا النفق المُظلم الذي بات يُهدّد الأغلبيّة الساحقة من اللبنانيّين، ليس في حقّهم بالعمل والعيش الكريم والحُصول على أبسط الخدمات والحُقوق من الدولة فحسب، إنّما في أمنهم المُجتمعي وحياتهم اليوميّة ولقمة عيشهم أيضا؟!.