يجب التأكيد بدايةً انّ ثورة 17 تشرين الأول هي ثورة اجتماعية معيشية لا علاقة لها بالترسيمات السياسية بين 8 و14 آذار وغيرهما. ولكن، السؤال البديهي الذي يُطرح بفعل ما أظهرته الوقائع مع اندلاع الثورة: لماذا 8 ضد الثورة و14 معها؟
 

نجحت ثورة 17 تشرين الأول في توحيد المجتمع اللبناني وتجاوز الحواجز التي نشأت بفعل الانقسام السياسي العمودي بين 8 و14 آذار، ولذلك التعميم خطأ ولا يجوز، بمعنى ان ليس كل من هو 8 آذار ضد الثورة، وليس كل من هو 14 آذار مع الثورة، لأنّ الوجع مشترك بين جميع اللبنانيين وداخل كل البيئات. وما لم تتمكن السياسة من إنجازه نجح الفقر في تحقيقه لجهة توحيد اللبنانيين وإعادة الاعتبار للولاء اللبناني.

وأسوأ ما يمكن أن يضرب مجتمعاً أو وطناً معيّناً هو الفقر. ولكن، الإيجابية الوحيدة ربما للانهيار المالي والاقتصادي انّها أيقظت لدى اللبنانيين الشعور بضرورة قيام دولة، بعدما لمسوا لمس اليد أنّ الشبه دولة ليست فقط عاجزة عن مكافحة الفساد، إنما دفعت بأوضاعهم إلى الحضيض وأوصلتهم إلى الفقر والعوز، ولم يسبق ان عرف لبنان أساسًا أوضاعاً مماثلة في عزّ الحرب اللبنانية، وقد وصلوا إلى قناعة انّه لا يمكن تحقيق الازدهار والملفات البديهية من كهرباء وماء وطرقات وخدمات وإدارة نظيفة وشفافة وقضاء عادل وغيرها، في ظلّ قوى سياسية أولويتها مصالحها على حساب الدولة والناس.

وعندما رفعت 14 آذار شعار «العبور إلى الدولة» كان الطابع الأساس لهذا الشعار سيادياً لناحية الصراع مع سلاح «حزب الله»، وما يرفعه الناس اليوم هو الشعار نفسه، ولكن بطابع معيشي واجتماعي، والنتيجة واحدة في نهاية المطاف، لإنّه عندما يقوى الانتماء للدولة تضعف تلقائيًا الانتماءات الأخرى، وعندما يتعزز وضع المواطن يرفض تحت أي عنوان ضرب الميزات التفاضلية التي يحصل عليها.

ولولا تراجع حدّة الانقسام السياسي في السنوات الأخيرة، وتقدّم الأولوية الإصلاحية والمعيشية، لما ولدت ثورة 17 تشرين الأول. ولكن العنوان السياسي لم يتراجع إلّا بعد ان أثبتت الوقائع استحالة انتصار مشروع على الآخر. ومن إيجابيات وحسنات هذا التراجع انه برّد الرؤوس الحامية وعطّل مفعول التخدير السياسي، الأمر الذي جعل المواطن يعي مصالحه وأولوياته ويحوِّل كل تركيزه واهتمامه باتجاه أوضاعه المعيشية.

كما انّ هذا الوضع الاجتماعي المستجد أسقط الغشاوة التي كانت تحول دون رؤية الأوضاع على ما هي عليه، وتحديداً لناحية أنّ الخلاف السياسي لا يعني تشريع السرقة والفساد والمحاصصة.

فما عجزت السياسة عن تحقيقه بدأ يتحقق اجتماعيًا، وبوساطة 8 أو 14 آذار يستحيل عليها ان تعبر المناطق اللبنانية والحواجز النفسية، فيما بوسطة 17 تشرين الأول أو «بوسطة الثورة» نجحت على رغم كل التشويش الذي رافقها في عبور هذه المناطق من الشمال إلى الجنوب، وهذا دليل على انّ وجع الناس وقهرها أقوى من أي شيء آخر.

ولكن ما سبب الانطباع انّ 8 آذار ضد الثورة و 14 آذار مع الثورة على رغم انّ شريحة واسعة من بيئة «حزب الله» مؤيّدة للثورة؟ وفي الإجابة يمكن التوقف أمام أربعة أسباب - انطباعات أساسية:


السبب الأول، إنّ قيام الدولة الفعلية يستدعي تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، فيما يتعذّر تحقيقهما في ظل وجود طرف مسلّح يستقوي بسلاحه على الدولة وعلى الآخرين ويعرِّض الوطن لحروب لا شأن للبنانيين بها.

السبب الثاني، لأنّه يستحيل مكافحة الفساد في منظومة مسلّحة، فلا قضاء مستقل ولا أجهزة رقابية قادرة على القيام بمهماتها. وأفضل توصيف لهذا الواقع ما قاله أخيراً أحد نواب 8 آذار عن معادلة غير معلنة تسيِّر الدولة تحت شعار «لا تقربوا من فسادنا لا نقرب من سلاحكم»، إذ يستحيل على طرف سياسي لديه مصلحة وغرضية ان يكافح الفساد، بمعنى انّ أولوية «حزب الله» تكمن في الحفاظ على سلاحه، وبالتالي لن يجازف بخسارة من يغطي هذا السلاح بمعركة يخوضها ضد الفساد.

السبب الثالث، لأنّ الناس يريدون ان يعيشوا حياة كريمة بعيداً من الصراعات الأيديولوجية والمشاريع الكبرى. وهناك شريحة واسعة من الجيل الجديد الذي لم يعرف الحرب الأهلية بطبيعة الحال ولا يريد التعرف عليها ولا يكترث أساسًا للسياسة بمفهومها العقائدي أو السلطوي، وكل همّه أن تتوافر مستلزمات عيشه وأسلوب هذا العيش، وعندما وجد انّ التردّي الاقتصادي بدأ ينعكس على يومياته تخلّى عن عدم اكتراثه بالشأن العام وقرّر الدخول بقوة ضد تركيبة سياسية يغذي بعضها البعض ويستفيد بعضها من بعض.

ولا تنطلق هذه الشريحة الشابة من أفكار مسبقة مع طرف وضد طرف آخر، ولكنها قرّرت الدفاع عن حقّها في الوجود في دولة طبيعية وديموقراطية تعامل كل إنسان وفق القوانين المرعية، وقد شكلت هذه الشريحة رأس الحربة في ثورة 17 تشرين وتكوكبت حولها شريحة واسعة من اللبنانيين الذين وصلوا إلى خط الفقر واليأس من استمرار العيش في دولة فاشلة، وولّدت هذه اليقظة الشعبية شعوراً حقيقياً بإمكانية التغيير وفرصة نادرة ببناء دولة، ولولا دخول الناس على خط التغيير لأمكن الجزم بأن لا أمل في لبنان.

السبب الرابع، لأنّ هناك بكل بساطة قوى تقف في الاتجاه الطبيعي لتطور البشرية، فيما قوى أخرى تتمسّك بمفاهيم قديمة وتنتمي إلى عالم انتهى مع الحرب العالمية الثانية، ثم مع سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي من الطبيعي أن يجد «حزب الله» نفسه في مواجهة مع أناس لا يكترثون لسلاحه وأيديولوجيته وأسلوب ونظام عيشه.

وان تكون 14 آذار أقرب للثورة من 8 آذار لا يبدّل في حقيقة أنّ الناس ضد 8 و 14 آذار معاً، لأنّ القوى التي كانت ممسكة بزمام المبادرة في انتفاضة الاستقلال لا تختلف في ممارستها السلطوية عن 8 آذار، حيث لم يشعر المواطن انّ حياته ويومياته تبدّلت واختلفت بين مرحلة ما قبل الخروج السوري من لبنان وما بعده.

وأهمية هذه الثورة انّها غير مسيّسة ولم ترفع شعار الدويلة ولا السلاح، بل رفعت شعار مكافحة الفساد وبناء دولة حقيقية يحكمها القضاء والقانون، وفي دولة من هذا النوع لا قيمة لسلاح وأيديولوجيات بعيدة من أولويات الناس.

وأهمية هذه الثورة انّها لا تريد تزكية طرف على طرف آخر، ولا تفقه معنى الـ6 و6 مكرر ولا مفاهيم الغالب والمغلوب، وكل ما تريده وتسعى إليه هو غلبة المواطن الساعي إلى دولة طبيعية وفعلية في مواجهة طبقة سياسية من 8 و 14 آذار، حولّت حياته إلى جحيم واستحقّت معها الدولة لقب «الدولة الفاشلة».