عشية الأسبوع الذي تدْخل فيه الانتفاضةُ الشعبية في لبنان شهرَها الثاني، بدا أن ساعةَ الحقيقة اقتربتْ في ما خص مآل المنعطف الأخطر الذي تمرّ به البلاد منذ ما قبل حرب 1975، بفعل تَشابُك فتائل الشارع الذي لا يستكين، والمأزق الحكومي الذي لا يشي بأنه يقف على أبواب حلّ يسمح باحتواء الثورة عبر الاستجابة لمطلبها الرئيسي بقيام حكومة اختصاصيين مستقلّة تمهّد لانتخاباتٍ مبكرة، فيما عوارض الأزمة المالية الاقتصادية تتمدّد إلى الواقع المصرفي والنقدي وإلى البنية الاستراتيجية ليوميات المواطنين. صحيح أنّ الدستور رَفَعَ عن رئيس الجمهورية أي مسؤولية، مما جنّبه أي مطالبة بإستقالته، عَمَلاً بقاعدة عدم تحّمله أي تِبعةعملاً بأحكام المادة /60/ من الدستور إلاّ أنّ هذا المبدأ لا يمنع الشعب من إبداء رأيه، وعلى الرئيس أن يستمع في نهاية المطاف إلى إرادة الشعب، أو بالأقّل أن يكون تعامله مع هذه الإرادة، تعاملاً إيجابياً ومُنفَتِحاً ومُتَفَهِّماً. ففي حالات الخواء السياسي وفقدان القيم، تكثر الأكاذيب ومحاولات تزوير التاريخ والخروج عنه. في هذه الحقبات الزمنية تطفو على الناس طفيليات سياسية لا تعتاش على غير التعصّب والتكاذب، وهي تعزّز وجودها بالعنصريات والتخويف، لكنها تقع في شرور أعمالها. قبل فترة كان أحدهم يصرخ بأنه يريد أن يجرف الناس من مناطقها. هدّد بقلب الطاولة فوقع تحتها، وانقلبت فوقه الدنيا رأساً على عقب.

لعبَ هذا وزمرته على تخويف الناس ونبش القبور. ولكنه لا يزال يكابر. يكابرُ حتّى على البطريركية المارونية. في تكبّره عجرفة وصلافة، لكنها لا تؤدي إلّا إلى المقتل في السياسة. كانت البطريركية المارونية في اليوم الأول لانتفاضة الشعب اللبناني تطالب بتغييرٍ حكومي، وتغيير الوجوه الحكومية، لم تعد الانتفاضة اللبنانية تقف عند حدود تشكيل حكومة من عدمها. الحكومة وشكلها وحصصها وتوزيعاتها، أصبحت تفاصيل في ظلّ ما كرّسه اللبنانيون على مدى أكثر من 27 يوماً. وهذا الكلام ليس من باب التفاؤل بالتحركات، بقدر ما هو جزء من مباحثات تقوم بها معظم الأحزاب والقوى السياسية، التي تجد نفسها وقد أصيبت بأعطاب كبيرة من جرّاء ما حدث. كل ما جرى على الأرض، من حيوية التحركات ونوعيتها وإبتكارها ودخول عناصر جديدة إليها، أثبت أن اللبنانيين دخلوا في مسار طويل من التطوير والتجديد، ولم يعد بالإمكان تجاهله، لا بتشكيل حكومة تكنوقراط ولا بإخماد هذه المطالب والتحركات بأي من الألاعيب السياسية أو التشريعة أو القانونية. أن الأزمة اللبنانية دخلت منعطفا خطيرا بعد الحديث التلفزيوني الذي أدلى به الرئيس ميشال عون، مساء الثلاثاء، وكشف فيه عن رغبة بالعودة إلى ممارسة صلاحيات كانت له في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف، في الوقت الذي بدت فيه  الضغوط التي تتعرض لها القيادات السياسية اللبنانية واضحة، حال الانهيار التي وصل اليها العهد القوي الذي يريد لأبنائه أن يهاجروا. والأخطر من ذلك أن عون لم يبد أي استعداد للتراجع، بل أعاد تجديد شروطه السياسية لتشكيل الحكومة، حتى أنه عرقل أي مسعى مع الحريري لإقناعه بالعودة وصعّب مهمته.

وهذا النوع من المواقف ليس غريباً على عون، الذي يفضل القفز في الأتون على التراجع. لكن المشكلة الآن هو أن ليس العهد وحده سيدفع الثمن بل لبنان كله. ولأنّ الرئيس عون يشعر بأنّ الأمور ذهبت في اتجاهات بعيدة في الشارع من بعد كلمته، فمن المفترض بأن يدعو الى الاستشارات لان الامور لم تعد مقبولة ، خصوصاً لجهة أنّ رئيس حكومة تصريف الاعمال سعد الحريري عند موقفه بوجوب الانتقال الى حكومة جديدة تحاكي المستجدات السياسية، وهو لن يتأخر عن خوض التحدي بحكومة من أصحاب الخبرة والاختصاص، ويعتبر أن العودة الى حكومة على صورة الحكومة المستقيلة مع بعض التجميل مرواحة في غير محلها. وذكرت مصادر متابعة أنّ الكرة ليست في ملعب الرئيس الحريري، بل هي في ملعب الجميع، ومصير الاستشارات بيد رئاسة الجمهورية وليست بيد رئيس الحكومة المستقيل، والكلام عن ان الآخرين ينتظرون جواباً على اسماء مقترحة غير صحيح مطلقاً، لان كل أجوبته أصبحت في عهدة المعنيين بالمشاورات. وفيما كان الرئيس الحريري يقفل الباب نهائياً أمام حكومة تكنوسياسية، كان حزب الله يؤكّد تمسّكه النهائي وغير القابل للتعديل بالمشاركة في الحكومة من خلال تمثيل مباشر له. وهو ما يعني حكومة تكنو  سياسية تجمع بين مطالب الجميع. لغاية الان لاآفاق واضحة لطبيعة المرحلة المقبلة حتى الآن، لكن ثمة مؤشرات لسيناريوهات مخيفة، ما عادت مجرد أوهام وتصورات، ويبدو أن ثورة اللبنانيين قد تجاوزت خطوطا حمراء، وهنا مكمن الخوف ومبعث القلق ثمة مدلولات خطيرة لما يجري اليوم همسا، أو عبر تسريبات موجهة أقرب ما تكون إلى رسائل تهديد غير مباشرة لفرقاء لبنانيين، صنفوا سابقا كفريق 14 آذار، والمطلوب حكومة طيِّعة تراعي هواجس حزب الله الاقليمية ولا تعير انتباهاً ولا اهتماماً لوجع اللبنانيين ، ويرى البعض أن فوضى الشارع قد تكون مفيدة لحزب الله وتيار الرئيس عون لإجبار كل التيارات السياسية إلى القبول بالصيغة الحكومية التي يفضلانها، ولهذا يبدو ان الضوء الاخضر للبدء بالاستشارات النيابية الملزمة ليست بوارد ان تشع وهي ما زالت خارج الخدمة حمى الله لبنان وللحديث صلة .