بدأت المبارزة بين السلطة والثورة الشعبية في الشارع تتّخذ منحى التصادم بعد أسبوع على انطلاقتها، وتوقّع كثيرون هذا المنحى. فلا السلطة مستعدة او متجاوبة مع دفع أي ثمن سياسي لحسابات مختلفة بين اطرافها، ولا الناس مستعدة للخروج من الشارع مقابل ثمن «وهمي»، وهو الورقة الاصلاحية التي لا تحمل مضموناً تنفيذياً، خصوصاً على يد حكومة لا يثقون بها.
 

قبيل اجتماع مجلس الوزراء، سأل أحد الوزراء مرجعاً رسمياً كبيراً إذا كان يعتقد أنّ المتظاهرين سيوافقون على الورقة وينسحبون من الشارع؟ فجاء جوابه بالنفي. وبكثير من الدهشة سأل الوزير من جديد، وماذا نفعل اذاً ؟ فأجاب: إننا نكسب الوقت.

قبل ذلك بساعات، وتحديداً خلال القاء الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله كلمته الأخيرة، كان رئيس الجمهورية يستمع اليه، والى جانبه الوزير جبران باسيل، الذي يلازم القصر الجمهوري منذ ما بعد ظهر الخميس الماضي، تاريخ نزول المحتجين الى الشارع.

وجرى اتصال بالسيد حسن نصرالله بواسطة الحاج وفيق صفا للتعبير عن الامتنان لموقفه. ومثله، فإنّ رئيس الحكومة الذي كان يتابع الكلمة، بادر الى الاتصال بالحاج حسين خليل ليعرب عن امتنانه أيضاً. كان الاعتقاد أنّ «موقف» «حزب الله» سيدفع الى تعديل موازين القوى في الشارع.

صحيح انّ «حزب الله» وحركة «أمل» تنصّلا من «هجمة الموتوسيكلات»، إلّا أنّ ردّة الفعل جاءت سلبية. فالاحتكاك سيتحوّل الى عودة خطوط التماس بين الطوائف، وبالتالي الى ضرب الاستقرار الداخلي. وفيما كانت الاقتراحات السياسية الجاري تقديمها تسقط الواحدة تلو الأخرى، كان المناخ الدولي بدأ يتبدّل. ففكرة إحداث تعديل وزاري ستطال حكماً الوزير جبران باسيل، رفضها رئيس الجمهورية، كونها ستعني حكماً تنفيذ حكم الإعدام السياسي بالوزراء الخارجين. وفكرة استقالة الحكومة وتشكيل حكومة مصغّرة من تكنوقراط جُوبهت برفض «حزب الله»، رغم انّ الرئيس عون لم يكن ضدّها بالمطلق.

فالحكومة الجديدة ستعني ضرب التوازنات التي رست بعد الانتخابات النيابية الاخيرة. و»حزب الله» يقرأ الاحداث من الزاوية الاقليمية المتحرّكة والمتغيّرة. ففي سوريا اتفاقات هائلة يجري تطبيقها، والدب الروسي يتقدّم لملء الفراغ الاميركي، ولكن بالتفاهم معه ووفق برنامج عمل سري.

وفي اسرائيل أفول حقبة نتنياهو، الذي عجز عن تشكيل الحكومة، وتقدّم بيني غانتس كأول شخصية اسرائيلية يجري تكليفها بتشكيل الحكومة منذ عشر سنوات.

وفي اسرائيل أيضاً، استنفار عسكري تحسباً لهجوم ايراني بصاروخ او طائرة مسيّرة للانتقام من اكتشاف محاولة لاغتيال قاسم سليماني.

لذلك لا بدّ لـ»حزب الله» من أن يقلق وأن يتحّسب لاحتمال ضرب التوازنات القائمة. وكان اقتراح بأنّّ المواجهة من داخل الطوائف يبقى أضمن وأفعل من إعادة خطوط التماس في ما بينها. ومعه تصاعد الكلام على وضع شارع «التيار الوطني الحر» بوجه شارع «القوات اللبنانية».

في الواقع، إنّ تصوير «القوات»، وكأنّها تحرّك الشارع المسيحي انما يمثل خدمة دعائية هائلة لها بتصويرها بهذا الحجم، وفق ما ردّد سفير اوروبي بتهكّم. الواضح أنّ الهدف من هذا التسويق تبرير المواجهة التي يجري الدفع باتجاهها في الشارع المسيحي. وهنا مكمن الخطأ، والخطر بأن تسيل الدماء. والسفارة الاميركية في عوكر نقلت الى رئيس الجمهورية قلق واشنطن الشديد ممّا يجري كونه يهدّد الاستقرار القائم، ودعت الى احترام حرّية التعبير.

في الواقع، فإنّ واشنطن التي فوجئت في البداية بحجم الحركة الشعبية وسلميتها وشموليتها مختلف المناطق اللبنانية، كانت اعلنت موقفها للرئيس سعد الحريري وغيره، بأنّها مع بقاء الحكومة، وانها غارقة في مشكلات كثيرة أكثر أهمية في سوريا والشرق الاوسط وحتى في الداخل الاميركي. لكن تعب المتظاهرين، الذي راهن عليه أركان السلطة في لبنان وتوقّعته العواصم الغربية، لم يحصل، بل على العكس زاد حجم المتظاهرين، وازدادت ثقتهم بأنفسهم واصبحوا أكثر جرأة. ولأنّ التظاهرات تعني في الواقع سحب الوكالة التي أُعطيت في الانتخابات، فإن همساً بدأ يدور في أروقة الامم المتحدة حول توجّه جديد.

ووفق معلومات دقيقة، فإنّ الامم المتحدة، وفي حال جنوح الامور ناحية الفوضى او المواجهات او سقوط دماء، فإنّ هنالك من طرح اصدار قرار مستوحى من القرار رقم 1244 الذي أُعلن في حزيران عام 1999 حول كوسوفو. هذا القرار سمح بوجود عسكري دولي في كوسوفو الى جانب إنشاء ادارة موقتة منبثقة من بعثة الامم المتحدة لإعادة تنظيم الادارة في البلاد. وبعبارة اوضح، وضع البلاد تحت انتداب الامم المتحدة. ولأنّ الامم المتحدة غير قادرة على تشكيل قوة دولية في هذه المرحلة لأسباب مادية وسياسية، فإنّ القرار يمكن اتخاذه، لكن بالتعاون مع الجيش اللبناني الذي أثبت قدرته وتنظيمه وثقة الناس به.

ما من شك في أنّ هذا النقاش بدأ داخل أروقة الامم المتحدة، وانّ انفلات الوضع على الارض وضرب الاستقرار والذهاب باتجاه صدامات ستسرّع الاتجاه لتطبيقه. قد يكون من الافضل للجميع الذهاب الى دفع ثمن سياسي معقول، كي لا يصبح الثمن أكبر لاحقاً.