ليس مستغرباً أن يكون هناك ترحيب عربي بتشكيل اللجنة الدستورية السورية؛ على اعتبار أنها ستعزز المسار السياسي لأزمة غدت مستفحلة بعد ثمانية أعوام من انفجارها في مارس (آذار) عام 2011. هذه اللجنة التي من المفترض أن تشكيلها قد استند إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ووفقاً لما تمخض عن اجتماع «جنيف1» الذي كان انعقد في الثلاثين من يونيو (حزيران) عام 2012.


لكن المشكلة تكمن في أن نظام بشار الأسد قد حاول تعطيل هذه الخطوة، وأنه قد بذل جهوداً مضنية بدعم إيراني ومساندة من قبل دولة الولي الفقيه لتعطيلها، وعلى أساس أنه لا ضرورة لها طالما أن هناك دستوراً عاماً هو دستور عام 2012 الذي بالإمكان أن يكون هو الأساس مع بعض «التعديلات» التي تتطلبها بعض مقتضيات المرحلة الجديدة.


وهنا، فإنه لا بد من التأكيد أن الروس هم أصحاب هذه الخطوة، وأنهم قد بادروا إلى تشكيل هذه اللجنة «الفضفاضة» رغم أنف بشار الأسد ونظامه وحكومته، وأيضاً رغم معارضة إيران التي ترى أنها الأحق بأن تكون الوصية على هذا النظام الذي تنظر إليه من زاوية مذهبية وطائفية مثل نظرتها إلى العراق ولبنان، وأيضاً الجزء اليمني المسيطر عليه من قبل الجماعة الحوثية.


فالروس، الذين وفرت لهم الأزمة السورية وجوداً عسكرياً في هذا الجزء الاستراتيجي المهم من البحر الأبيض المتوسط المقابل للجزيرة القبرصية، التي هناك تقديرات بأنها تغوص في بحيرة نفطية و«غازية»، أصبحوا شركاء في عمليات السباق على هذه الجزيرة التي باتت تنخرط في الصراع عليها تركيا واليونان والولايات المتحدة وإسرائيل ولبنان.


وهكذا، فإن الروس عندما بادروا إلى التدخل عسكرياً في سوريا، فإن هدفهم كان ولا يزال هو هذا الهدف، وحيث إن المعروف أن الوجود الروسي في هذا الجزء الاستراتيجي من العالم العربي يعود إلى عام 1959 في عهد الاتحاد السوفياتي، وأن تجديد هذا الوجود في عام 2015 لم يكن لا من أجل عيون بشار الأسد ولا من أجل نظامه، وإنما لأن روسيا أرادت موطئ قدم على الشواطئ الشمالية - الشرقية للبحر الأبيض المتوسط الذي كان محرماً على الأساطيل الروسية سابقاً ولاحقاً وحتى عام 2015 وما بعد ذلك بقليل!


وحقيقة، أن الروس عندما أجبروا بشار الأسد ونظامه على القبول بهذه «اللجنة الدستورية» التي أُغرقت في هذا البحر المتلاطم من الأعضاء والمشاركين: (خمسون للنظام وخمسون للمعارضة) بكل تشظياتها، وخمسون إلى شيء يدعى «المجتمع المدني»، فإنهم أرادوا ترسيخ وجودهم في هذا البلد وبحيث إن «القطر العربي السوري» سيصبح يدار من القاعدة العسكرية الروسية في «حميميم» وليس من العاصمة الأموية!


والمستغرب حقاً في هذا المجال أن اثنين من رموز المعارضة السورية، التي تشير بعض التقديرات الموضوعية إلى أن عدد فصائلها وتشكيلاتها وتنظيماتها قد تجاوز الألف تنظيم، هما نصر الحريري والفنان المبدع جمال سليمان، قد بادرا إلى اعتبار أن تشكيل هذه اللجنة يعتبر انتصاراً للشعب السوري، وذلك مع أنهما يعرفان أن هذا الشعب لا علاقة له بكل هذا الذي يجري، وأن عمليات ذبحه وتشريده لا تزال متواصلة وأن روسيا، صاحبة هذه المبادرة، مستمرة في دعم النظام، وبخاصة في إدلب التي باتت مدنها وقراها أكواماً من الأتربة والحجارة.


كان يجب قبل تشكيل هذه «اللجنة الدستورية» أن يتم الإفراج عن أكثر من مليون معتقل في سجون بشار الأسد، الذي كان أعلن في بدايات انفجار هذا الصراع عن أنه، «لا يريد إلا ما يعتبر سوريا المفيدة»، والسماح لأكثر من 12 مليون لاجئ بالعودة إلى وطنهم، ثم وقبل هذا كله فإن الأولوية كان يجب، قبل تشكيل هذه اللجنة الغريبة العجيبة، أن يتم إخراج كل هذه الاحتلالات من هذا البلد الذي يحتاج إلى سنوات مكلفة طويلة للعودة إلى ما كان عليه قبل أن يبتلى بسلسلة الانقلابات العسكرية التي كان آخرها انقلاب حافظ الأسد على «رفاقه» في عام 1970.


والسؤال هنا في ظل كل هذه التعقيدات الحالية والمتوقعة، هو: هل أن هناك يا ترى ضرورة إلى دستور جديد بينما أوضاع سوريا وأوضاع شعبها هي هذه الأوضاع المأساوية؛ فالعربة، كما يقال، توضع وراء الحصان وليس أمامه، والمفترض أولاً أن تتوقف هذه المذابح، وأن يعود المشردون واللاجئون إلى وطنهم، وأن يتم الإفراج عن نزلاء المعتقلات والسجون، والتخلص من كل هذه الأجهزة القمعية التي لا يمكن اتخاذ أي خطوة إصلاحية فعلية ما دام أنها موجودة، وما دام أن هذا النظام الاستبدادي قائم، وما دام أن هناك هذا الاحتلال الإيراني الذي إذا أردنا قول الحقيقة أن خطورته الآن ومستقبلاً أكثر كثيراً من خطورة الوجود الروسي وهو يتساوى مع خطورة الاحتلال الإسرائيلي.


إن الشعب السوري قبل تشكيل هذه اللجنة الدستورية وقبل إعداد دستور جديد في حاجة إلى التخلص من هذا النظام ومن أجهزته القمعية، ثم وأن المفترض أن ما لا خلاف عليه هو أن المشكلة ليست في «الدساتير» السابقة، وبخاصة دستور عام 2012، وأيضاً دستور خمسينات القرن الماضي، وإنما في عدم تطبيقها؛ ولهذا فإن الأولوية يجب أن تكون لإنهاء هذا الاستبداد الذي بقي مستمراً ومتواصلاً منذ عام 1970 والذي من الواضح أنه لن يزول لا بتشكيل هذه اللجنة الدستورية هذه، ولا بإعداد دستور جديد أفضل «ديباجة» من دساتير الدول الديمقراطية إلا بإزالة هذا النظام الذي بقي يجثم على صدر هذا البلد العربي كل هذه السنوات الطويلة... منذ عام 1970 وحتى الآن.


ويبقى أنه لا بد من التأكيد أن الولايات المتحدة لاعب رئيسي في سوريا، وأنها، وذلك رغم كل ما يقال عن أنها بصدد مغادرة هذا البلد نهائياً وتركه لصراع الدول والأطراف الأخرى، تشكل رقماً في المعادلة السورية والمعروف أن أميركا لديها لاءات كثيرة ترفعها في وجه روسيا وبالطبع ووجه إيران وأيضاً في وجه اللجنة الدستورية التي هي، كما سلفت الإشارة إليه، لجنة روسية تم إجبار نظام بشار الأسد على القبول بها وإن مؤقتاً وليرتد عليها لاحقاً مستنداً إلى دعم إيران التي يرى البعض أن مكانتها في هذه المعادلة تتفوق حتى على مكانة روسيا الاتحادية.


وعليه، وفي النهاية، فإنه لا يمكن أن يُؤْخذ تشكيل هذه اللجنة على أنه انتصار للشعب السوري على محمل الجد؛ فهذا الشعب في واد وكل هذا الذي يجري في واد آخر، ثم وهناك، كما هو معروف، جزء رئيسي من هذا البلد خارج سيطرة هذا النظام وبصورة مطلقة وخارج سيطرة الإيرانيين وخارج تأثير «الملاّ» رجب طيب إردوغان الذي باتت سيطرته حتى على تركيا نفسها وفي كل المجالات في تراجع مستمر، وذلك حتى بعد تكريسه زعيماً للتنظيم العالمي لـ«الإخوان» المسلمين، وهنا فإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هناك تشكيلات رئيسية من بينها ما يسمى «سوريا الديمقراطية» ترى أن هذه اللجنة الدستورية ليست سورية، وإنما لجنة القوى الضامنة لمسار «آستانة»، وأن هدفها هو حلّ المشكلات العالقة بينها!