إنها وبالتأكيد مجرد «صدفة»، وليست لا من قبيل الاتفاق ولا تنسيق المواقف بين مسؤوليْن أردُنيين كبيرين سابقين كانا من المشاركين الأساسيين في اتخاذ القرارات الأردنية الصعبة والحاسمة، وكلاهما من مدينة نابلس، التي كانت ولا تزال توصف بأنها «جبل النار»، على اعتبار أن دور أهلها كان رئيسياً في الثورات الفلسطينية المتلاحقة، أن يحذِّر الأول من عمليات «ترانسفير»، أي «تهجير جماعي» لفلسطينيي الضفة الغربية في اتجاه الأردن، وأنْ يحذر الآخر من أنَ الجزء الثاني من «وعد بلفور» يستهدف شرق نهر الأردن، المملكة الأردنية الهاشمية، سيجري تطبيقه قريباً من قبل إسرائيل، إذ إن المعروف أن الحركة الصهيونية كانت وربما لا تزال ترفع شعار: «من النيل إلى الفرات»!!

 


كنت في مقال سابق لـ«الشرق الأوسط» قد أكدت أنه حتى وإنْ فكر غلاة التطرف في إسرائيل وغلاة اليهود الصهاينة، وبخاصة في الولايات المتحدة، باقتلاع الفلسطينيين من باقي ما تبقى لهم من فلسطين، فإن هذا إنْ كان متاحاً في فترات سابقة فإنه بات متعذراً الآن، إذ إن أهل هذا الجزء من فلسطين التاريخية قد تجاوز عددهم الثلاثة ملايين، وإن هؤلاء متمسكون بأرضهم ووطنهم، ولم يسجل عليهم أي نزوح جماعي على مدى نحو نصف قرن وأكثر، حيث أصبحت الضفة الغربية بمدنها وقراها منطقة ناهضة عمرانياً، وأنها تضم أفضل الجامعات والمدارس، وأصبح أهلها بمستوى ما هو عليه واقع الحال في بعض الدول الأوروبية.

 


إنه لا يمكن وعلى الإطلاق أن يكون هناك تهجير جماعي لأهل الضفة الغربية المنغرسين في وطنهم كانغراس أشجار الزيتون التي مر عليها ليس مئات الأعوام وفقط، لا بل ألوف السنوات في تراب هذا الجزء من فلسطين، ثم إن المعروف أن بعض الإسرائيليين، الذين يأخذون بعين الاعتبار مستقبلهم البعيد، يرفضون هذا، وأن العالم الغربي وفي مقدمته أوروبا يرفضه أيضاً، ولذلك فإنه إذا كان هكذا «ترانسفير» وارد في عام 1967 وبعده بقليل، فإنه لم يعد وارداً على الإطلاق الآن، حتى وإنْ أراده غلاة التطرف الصهيوني وأيده في ذلك الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

 


وعليه ورغم «مخاوف» الذين قد تحدثوا عن هذه المسألة وبكل جدية، الذين لهم كل التقدير والاحترام، فإن هذا الموضوع بالصورة التي تم التحدث عنها غير وارد إطلاقاً، والأهم في هذا المجال هو أن أهل هذا الجزء من فلسطين قد تعلموا الكثير مما جرى في عام 1948، وأيضاً مما جرى في يونيو (حزيران) عام 1967، وأنه أصبح هناك التصاق شديد بأرض الضفة الغربية، وأن ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو أن عدد الذين قد عادوا إلى وطنهم بعد توقيع اتفاقيات «أوسلو» المعروفة قد تجاوز نصف المليون بكثير، وذلك رغم أنّ الإسرائيليين بقوا يتملصون من هذه الاتفاقيات، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين هو الوحيد الذي كان جاداً في تطبيقها، والمعروف أنه قد دفع حياته ثمناً لقناعته الراسخة هذه.

 


والمهم ومع أن ما لا جدال فيه إطلاقاً هو أن دوافع من حذروا من عمليات التهجير الجماعي هذه لأهل الضفة الغربية هي الحرص والأخذ بعين الاعتبار الكثير من التجارب المريرة السابقة، فإنه لا بد من التأكيد على أن هذا الأمر غير وارد على الإطلاق، على أساس أن أهل الأرض متمسكون بأرضهم، وأنه لا نزوح إطلاقاً من هذه الأرض... وليحصل ما قد يحصل!!
إن هذه مسألة؛ وأما المسألة الأخرى فهي أن المؤكد هو أن حرص رئيس الوزراء الأردني السابق طاهر المصري قد دفعه إلى التحذير من أن «أي انقسام جهوي أو غيره في المجتمع الأردني، (سوف يجعلنا)، أي يجعل الأردنيين في يد المشروع الصهيوني لشرق نهر الأردن... باعتباره جزءاً من وعد بلفورهم (العتيد)... وأمراً تسعى إليه إسرائيل و(المسيحيون الصهاينة)... الذين هم بانتظار أن يستكملوا الإطباق على فلسطين التاريخية ليقوموا بتنفيذ الشق الأردني من هذا المشروع!!».

 


وحقيقة أنه لا يستحق رئيس الوزراء الأردني السابق، هذا الرجل الوطني والقومي الغيور، إلا التقدير والاحترام على ما أبداه من مخاوف تجاه هذا الأمر الخطير جداً، لكن ما هو معروف في هذا المجال، هو أن «وعد بلفور» المشؤوم وليس «العتيد»!! لم يُشر على الإطلاق إلى أي علاقة لـ«المشروع الصهيوني بشرق نهر الأردن»، وأنه لا يوجد أي نصٍّ على أن هناك «شقاً أردنياً» لما تسعى إليه إسرائيل ومعها «المسيحيون الصهاينة»، اللهم باستثناء ما جاء في شعار الحركة الصهيونية المعروف: «أرضك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات»!!

 


إنه لا شك إطلاقاً في أن «اتفاقيات أوسلو» قد دخلت دائرة الفشل بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، حيث إن السياسات الإسرائيلية في هذا المجال قد انتهت إلى أيدي الصهاينة الأكثر تطرفاً، مما أدى إلى تقويض أسس تسوية الصراع في هذه المنطقة، وإغلاق الآفاق أمام تحرر الفلسطينيين وإقامة دولتهم المستقلة، مما يعني في الجوهر، إذا بقيت الأمور تسير في هذا الاتجاه، إلغاء كل التسويات التي تمت في هذه المنطقة من كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى «أوسلو»، وهنا فإن المفترض أنه لا جدال في أن الأساس في هذا الصراع الشرق أوسطي كله هو القضية الفلسطينية.

 


ربما إن غلاة التطرف الصهيوني يفكرون في شرق الأردن بعد استكمال مشروعهم على المستوى الفلسطيني الذي لن يستكملوه أبداً، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أنّ شرق نهر الأردن، أي المملكة الأردنية الهاشمية، لم يرد إطلاقاً في «وعد بلفور» السيئ الصيت والسمعة... وليس «العتيد». والحقيقة أنّ أصحاب المشروع العروبي العتيد كانوا يسعون إلى أن تكون بلاد الشام ومعها العراق أيضاً دولة عربية واحدة... وبالطبع فإن هذا قد كان متعذراً منذ البدايات في ضوء ما كانت عليه الأمور إنْ في تلك المرحلة التاريخية المعروفة وإنْ الآن!!

 


وهكذا فإنه خطأ فادح أن يقال إن هناك مشروعاً صهيونياً موجهاً لشرق نهر الأردن، باعتباره جزءاً من وعد بلفور، فهذا لا توجد بالنسبة إليه أي وثيقة رسمية ولا غير رسمية، ولذلك فإنه يجب الابتعاد عن التعاطي مع هذا الأمر بهذه الطريقة، والمعروف أن من يواصل الحديث عن الذئب سيجد في النهاية أن الذئب واقف أمامه ومكشر عن أنيابه.
في كل الأحوال، إنّ من المفترض هو أن المعروف لكل أردني ولكل عربي أيضاً هو أنّ المرة الوحيدة التي حاول فيها الإسرائيليون عبور نهر الأردن في اتجاه الشرق وكمحاولة لاحتلال مرتفعات السلط الغربية كانت في 21 مارس (آذار) عام 1968، وأنه كانت هناك معركة الكرامة العظيمة، التي خاضها الجيش العربي (الأردني)، ومعه إخوانه من الفدائيين الفلسطينيين، التي هزم فيها الجيش الإسرائيلي شر هزيمة، وأيضاً التي لا تزال أكبر مثل على أنه بالإمكان هزيمة الإسرائيليين وإخراجهم من كل أرض فلسطينية وعربية محتلة.

 


إن هذا يعني أنه حتى وإنْ فكر الإسرائيليون بهذه الطريقة التي تحدث رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري (أبو نشأت) بها فإنهم سيجدون أمامهم ليس «كرامة» واحدة بل ألف «كرامة»، ولن يكون الأردنيون وعلى الإطلاق «لقمة سهلة في المشروع الصهيوني الموجه لشرق نهر الأردن»، بل إنهم سيتحولون كلهم إلى فدائيين، ثم ويقيناً أن معركة كهذه إنْ هي حصلت فإنها ستكون معركة قومية، سيشارك فيها الخليجيون والعراقيون وغيرهم، كما كانوا شاركوا في معارك وحروب سابقة.