يخطِئ مَن يراهن على سقوط التسوية الرئاسية - السياسية من باب الخلاف بين رئيس الجمهورية ميشال عون واستطراداً الوزير جبران باسيل وبين رئيس الحكومة سعد الحريري، لأنّ العهد أحوج ما يكون إلى أفضل العلاقات مع الحريري.
 

وفّرت التسوية السياسية الاستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي بما لا يمكن مقارنته مع المرحلة التي سبقت هذه التسوية، الأمر الذي أتاح مقاربة شؤون الناس الحياتية بعيداً من صخب وضجيج الانقسامات العمودية التي تمّ تعليقها لثلاثة أسباب أساسية: استحالة أن يحسم أيّ طرف ضد الآخر، الحلّ لهذا الانقسام إقليمي الطابع لا لبنانياً، انهيار الدولة من الباب الاقتصادي والمالي.

وعلى رغم من أهمية ثنائية الاستقرار والانتظام، إلّا أنّ التسوية لم تكن على مستوى انتظارات الناس وتطلعاتهم في بناء الدولة التي يستعيد من خلالها المواطن حقوقه وكرامته بعيداًَ من التبعيّة والاستزلام، وقد زاد استفحال الأزمة الاقتصادية من الانطباعات السلبية للناس التي لم تلمس أيَّ تبدُّلٍ في بنية الدولة الإدارية والممارسة الدولتية، بل لمست تراجعاً في قدرتها الشرائية وفي حماستها بالبقاء في البلد.

والإنجاز الثالث الذي يمكن ضمّه إلى إنجازَي الاستقرار والانتظام هو قانون الانتخاب الذي أعاد تصحيح الخلل التمثيلي المتمادي منذ العام 1992، وتصحيح هذا الخلل ليس تفصيلاً في بلد قائم على توازنات دقيقة تجسِّد ميثاق العيش المشترك بين مكوّناته، فضلاً عن انّ الوضع الذي سبق القانون الانتخابي الحالي كان مخالفاً أيضاً للدستور بنصه وروحه، إلّا انّ هذا الإنجاز الكبير لم يشعر به المواطن الذي بقي مشدوداً إلى لقمة عيشه.

ولكنّ الاستقرار المنشود لم يكن على مستوى الآمال المعقودة عليه لسبيين أساسيّين: 

السبب الأول، الانقسامات التي طلّت برأسها مجدداً في مرحلة تأليف الحكومة التي طالت جداً بفعل محاولات تشكيل حكومة أمر واقع، واتّخذت في أكثر من مفترق طابعاً طائفياً شكل أوّل انتكاسة في العلاقة بين الحريري وعون وباسيل على خلفية الكلام المكرَّر عن صلاحيات الرئيس المكلف وإعادة النظر في الدستور وتحديد مهلة زمنية للتأليف وإلى ما هنالك من نقاط عولجت في «اتفاق الطائف» ولا مصلحة في إعادة نبشها، غير أنّ الغاية من فتحها كانت الضغط على الحريري لكي يسلِّم بوجهة نظر باسيل في التأليف، الأمر الذي خلّف ترددات سلبية داخل الشارع السني.

والسبب الثاني الذي حال دون الاستقرار المنشود يتصل بالمواجهات المتنقلة التي خاضها باسيل ويخوضها على مختلف المحاور باستثناء محور «حزب الله» للأسباب المعلومة، وقد انعكست هذه المواجهات سلباً على مستويين: مستوى علاقة المكونات الأساسية الشريكة في التسوية بالعهد، ومستوى ثقة الناس التي فقدت بفعل هذه المواجهات التي رأت فيها محاولات لتصفية الحسابات والإستئثار بالقرار الإداري والسياسي تمهيداً لتعبيد الطريق نحو الرئاسة الأولى.

وهذه الرئاسة بالذات تشكل الهمّ الأول للعهد ولباسيل تحديداً، وبالتالي لن يفرِّط في علاقته مع الحريري لثلاثة اعتبارات أساسية:

ـ الاعتبار الأول، لأنّ حجم المعارضة السنية غير كافٍ لإعطاء مشروعية سنية للانتخابات الرئاسية المقبلة، فيما المشروعية السنية ما زالت في يد الحريري وكتلته الوازنة عدداً ونوعاً.

ـ الاعتبار الثاني، لأنّ الحريري وحده داخل البيئة السنية القادر على التأثير بنحو أو بآخر على الموقف السعودي.


ـ الاعتبار الثالث، لأنّ تأييد الحريري أو معارضته تشكل حلقة أساسية في الاستحقاق الرئاسي محلياً وإقليمياً ودولياً.
وانطلاقاً من هذه الاعتبارات وغيرها طبعاً لا يمكن العهد أن يفرِّط بالعلاقة مع الحريري، لأن من دونه ثمة عقبة أساسية في سلوك طريق «بعبدا»، ولذلك يريد لهذه العلاقة أن تكون بمثابة «الزواج الماروني»، ما يعني منطقياً وموضوعياً انّ الطرف الأقوى في هذه العلاقة يُفترض أن يكون الحريري لثلاثة أسباب أساسية:

ـ السبب الأول، لأن لا بديل عنه في رئاسة الحكومة سنياً وسعودياً ودولياً، وبالتالي لا أحد يستطيع تمنينه بهذا الموقع.

ـ السبب الثاني، لأنّ «حزب الله» لمَس لمْس اليد انّ الاشتباك مع الحريري يؤدي إلى توتير الشارع السني ضده ويولِّد فتنة سنية - شيعية، فيما التفاهم معه يبعد الفتنة وينفِّس احتقان الشارع، وهذا ما دفعه إلى الطلب من باسيل احتواء الإشكال مع الحريري.

ـ السبب الثالث، لأنه من دون تأييد الحريري هناك عقبة جديدة في الدخول إلى القصر الجمهوري.

وعليه، فإنّ الانطباع السائد وهو أنّ الحريري في حاجة الى العهد غير صحيح، والصحيح هو العكس تماماً، ومرونة الحريري مردها إلى حرصه الثابت على الاستقرار والانتظام، ولكن لا يمكن ابتزازه من هذه الزاوية، لأنّ الحرص على الاستقرار والانتظام يجب أن يكون عاملاً مشتركاً لدى الجميع، وهو كذلك، حيث إنّ فقدانه يرتد سلباً على الجميع وكل البلد، فيما المصلحة المشتركة تكمن في الحفاظ على الستاتيكو القائم، ولذلك يخطئ مَن يعتقد انّ في إمكانه الرهان كثيراً على مقولة «أم الصبي» التي يتمسك بها الحريري، لأنّ هذه المقولة إما تنطبق على مختلف المكونات الأساسية، وإما لا تنطبق على أحد، ولن يكون في مقدور الحريري مزيد من التضحية على حساب تمثيله وبيئته، وردة فعله الأخيرة خير دليل على أنه لن يتهاون مع كل ما يمكن أن يمَس بدوره ومعنويات بيئته، وقد وصلت به الأمور إلى حدّ تخلّيه عن لغته الديبلوماسية ووصف باسيل بـ«البهورجي» في سابقة مِن قبله بحق أحد المكوّنات الأساسية.

وإذا كان حرص العهد على الزواج الماروني مع الحريري متأتياً من مصلحته الرئاسية، فإنّ الحريري حريص بدوره على الزواج نفسه ولكن من منطلقات مختلفة وتتصل بالاستقرار والانتظام، ولكنه لن يذهب أبعد من ذلك لثلاثة اعتبارات:

ـ الاعتبار الأول، لأنه يميِّز بين العلاقة مع باسيل كرئيس كتلة وازنة يحتِّم عليه التعاطي معه أسوة بالكتل الأخرى، وبين باسيل المرشح، حيث إنّ تجربة المساكنة معه صعبة وقد انتقد علناً الحريري أسلوب باسيل في المواجهات المتنقّلة وطريقته الاستفزازية وفي عودته إلى ملفات خلافية.

ـ الاعتبار الثاني، لأنّ الظروف التي انطبقت على دعم ترشيح عون لن تنسحب على ترشيح باسيل، وتحديداً لجهة انّ التجربة على هذا المستوى غير مشجّعة للتكرار، فضلاً عن انّ بيئته بمستوييها السياسي والشعبي في غير وارد تقبّل خطوة من هذا النوع.

ـ الاعتبار الثالث، لأنّ علاقة الحريري الاستراتيجية مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع تستدعي عدم تكرار التجربة السابقة بتجاوز الاعتبار التحالفي الوطني ببعده المسيحي، وبالتالي لن يتفرّد بأيّ خيار غير متفق عليه مسبقاً مع جعجع تلافياً لتأثيراته السلبية على التحالف ببعده المحلي وعمقه الخارجي، كما انّ طبيعة الاستحقاق تفرض الأخذ بوجهة نظر رئيس «القوات» على غرار ما يقوم به جعجع في استحقاقات تتعلق بالحريري.