لعلها الزيارة الأكثر أهمية بالنسبة إلى الرئيس نبيه بري، إن لبعدها السياسي ومقاربتها للواقع العربي والتحديات الضاغطة عليه والتراجعات التي أدخلته في الزمن الصعب، أو لبعدها الديني في زيارة العتبات المقدسة والمراجع الدينية وما واكبها من تأكيد على الوحدة بين المسلمين ونبذ الفتنة والتفرقة، والانفتاح الكامل على سائر الديانات السماوية.
 

هذه الزيارة، التي بدا جلياً أنّ العراقيين كانوا ينتظرونها منذ أمد بعيد، قاربوها كحدث تاريخي، سعى من خلالها بري إلى إسقاط التجربة اللبنانية على الواقع العراقي الذي تتنازعه مكوناتٌ سياسية مختلفة؛ تجربة الحوار والبحث عن المشتركات، كخريطة طريق، لا بد من سلوكها في سبيل ترسيخ الاستقرار السياسي بشكل عام، وتعزيز الشراكة الكاملة في تحقيق الهدف الأسمى، أي بناء الدولة، دولة الانتماء الى الوطن التي تتجاوز كل المكونات والمذهبيات والطائفيات.

بهذه الروحية حضر بري إلى العراق، عينُه على الواقع العربي المريض، وقلبُه على المصير الذي يهدّده انقلاب الصورة، وخطأ البوصلة في التفريق بين الصديق والعدو، وجنوح بعض العرب إلى التطبيع مع إسرائيل، بما يطمس قضاياهم كلها، لا بل يلقي بمستقبلهم كلهم على قارعة التاريخ، وساعتئذ لا ينفع ندم ولا لوم.

وفي رأي بري «انّ ثمّة طريقاً وحيداً لا بديل له، هو المصالحة بين الجمهورية الاسلامية في ايران والمملكة العربية السعودية، التي كنت وما ازال انادي بها، والعراق من موقعه يملك القدرة على أن يلعب دور صلة الوصل بين الدولتين الإسلاميّتين. فمن دون هذه المصالحة سيبقى الواقع الإسلامي يعاني ما يعانيه».

في الجانب الآخر للزيارة، تبدّت مصيبة مشتركة بين البلدين؛ فما تسمعه في لبنان، تسمعه في العراق عن ضرورة الاصلاح، تراكم ازمات، الكهرباء المهترئة رغم إنفاق عشرات مليارات الدولارات عليها، الإدارة المتفلّتة، التوظيف العشوائي للألوف، القطاعات الخدماتية المنعدمة، المحسوبيات، المحميات السياسية، وغير ذلك كثير ممّا يستنزف الدولة ومواردها، كأنك امام مرآة مكبّرة للبنان تعكس وجه شبه كبير بين بلدين يقعان تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، ومرض مستفحل فيهما اسمه الفساد بأبشع صوره.

وامام هذه المرآة، كان بري صريحاً مع العراقيين «لا بد من إرادة عمل، ومصداقية، ونزاهة، وشفافية ومحاربة الفساد.. والرقابة هي الاولوية، والمحاسبة هي الأساس، ويبقى الاهم من كل ذلك هو أن نقتدي بهذا القول: «أعطني قاضياً أُعطِك دولة»، وبالتالي نعمل بوحيه، عندها نستطيع أن نقول إننا بدأنا الخطو فعلاً نحو بناء الدولة، وما ينطبق عليكم في العراق ينطبق علينا في لبنان».

الرئيس العراقي

وكان الرئيس العراقي برهم صالح قد استقبل بري امس، وأكد له «أنّ للبنان موقعاً مميّزاً ومحبةً كبيرة وانتم يا دولة الرئيس مرحّب بكم بين اهلكم ولكم معزّة خاصة عندنا»...

وهنّأ بري العراق بالإنتصار على الإرهاب، مشيداً بسياسة الإنفتاح التي يعتمدها اليوم، مشدّداً على الوحدة وعلى الحوار، وآملاً في تعزيز التعاون الإقتصادي وزيادة الإستثمارات.

وبعد اللقاء قال بري: تطرّقنا الى الوضع الإقليمي والأمور التي جرت في قمة تونس، وبحثنا العلاقات اللبنانية العراقية والإستثمارات اللبنانية في العراق وخصوصاً موضوع الإنشاءات النفطية التي تعمل بين كركوك ومدينة طرابلس، وهذا الامر موضع إجماع في ضرورة العودة إليه وسيوفد الوزير المختص الى لبنان لأجل الإطّلاع عن كثب على هذا الموضوع.


البرلمان العراقي

ثم انتقل بري إلى مبنى البرلمان العراقي حيث جمع رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي الكتل النيابية، وكانت مداخلات وأسئلة لرؤساء وممثلي هذه الكتل تركزت على الإشادة بدور الرئيس بري وعلى تطوير العلاقات والتعاون بين البلدين لا سيما على الصعيد الإقتصادي وتبادل الإستثمارات.

واكد الحلبوسي على القضية المركزية قضية فلسطين مشدِّداً على تعزيز التنسيق بين لبنان في المواقف وتجاه هذه القضية، ومؤكداً على رفض القرار الأميركي الأخير بالإعتراف بضمّ الجولان السوري العربي الى الكيان الصهيوني.

بري

وردّ بري على المداخلات مؤكداً على الوحدة ليس في العراق بل وفي لبنان ايضاً، ومشدداً على عدم التفرقة بين السنّي والشيعي.

وقال «ليس هناك شيعي ليس سنّياً وليس هناك سنّي ليس شيعياً. ولقد وقفت في إحتفال بذكرى الإمام موسى الصدر امام عشرات الألوف وقلت انا شيعي الهوية وسنّي الهوى. وكانت فلسطين تجمعنا ولا فرق بين سنّي وشيعي او مسلم ومسيحي، وقد لجأوا الى إثارة الفتنة والحساسية بين السنّة والشيعة لتغيير هذه المعادلة، وتمدّدوا في هذه المؤامرة واخترعوا بعبعاً للتخويف اعتبروه إيران، فلو قالت إيران اليوم إنها مع إسرائيل لبطلت وزالت كل العقوبات المفروضة عليها.. جاء ترامب كما توقع احد الكتاب الاميركيين فأقدم اولاً على وهب القدس لإسرائيل فكانت ردّة فعل العرب بالعمق «العدوّ إيران»، ولم تكن الرد المنتظر على ما حصل، وكما قلت سابقاً فإنّ الوضع العربي والشبيه بالقول «سئل الجبل من أين علّوك فأجاب من الوادي»، هو الذي حفّز الرئيس الاميركي مرة اخرى على إتخاذ قرار الإعتراف بالجولان جزءاً من إسرائيل» ومَن يضمن أن لا تعطى لاحقاً الضفة الغربية، وهل يبقى لبنان أو الأردن أو غيرهما؟ إنّ الوحدة هي الدواء ليس في العراق فحسب بل في لبنان ايضاً. والحوار هو كلمة السر وهو السحر الذي يمكن أن يحقق المناعة والنصر. وهذه الوحدة هي التي أنجحتنا وأنجحتكم».

واضاف الرئيس بري «الأمر الآخر المبتلى به لبنان والعراق هو الفساد الذي تبدأ مقاومته بقاض أعطني قاضياً واحداً وخذ دولة».

وتناول العلاقات اللبنانية - العراقية فقال «إنّ العلاقات بين لبنان والعراق ستصبح مميزة اكثر فأكثر بدءاً بموضوع التأشيرات، فلماذا لا تلغى التأشيرات بين بلدينا؟ ولا خوف من ذلك. ولقد بحثت هذا الموضوع مع معالي وزير الخارجية العراقي وأبدى إستعداداً، وسأواصل العمل في لبنان لإلغاء التأشيرات».

وكان بري زار مساء امس رئيس المجلس محمد الحلبوسي ودار الحديث حول التعاون بين المجلسين وتعزيز العلاقات اللبنانية - العراقية. ثم استقبل في مقر إقامته في دار ضيافة رئاسة الوزراء وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم. وقبل ذلك زار نهاراً في كربلاء العتبتين الحسينية والعباسية.