برز مع التوجّه الأميركي الصارم في مواجهة طهران و«حزب الله» والذي عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وقبله الرئيس دونالد ترامب وديبلوماسيون، ثلاث وجهات نظر حول طريقة التعامل لبنانياً مع هذا التوجّه الهجومي المستجد.
 

- وجهة النظر الأولى تقول بضرورة التقاطع مع التوجّه الأميركي الجديد الذي يشكّل فرصة لبنانية حقيقية لا يجب تفويتها من أجل استعادة سيادة لبنان واستقلاله، خصوصاً انّ هذا التوجّه قد لا يدوم وهو عُرضة للتبدّل مستقبلاً مع الانتخابات الأميركية أو حتى مع تبدّل أولويات الإدارة الحالية. ولذا يجب التقاط هذه الفرصة وقلب الأولويات اللبنانية من كهرباء وموازنة وفساد وإصلاح إلى بند سيادي وحيد عنوانه تسليم «حزب الله» سلاحه للدولة اللبنانية.

فهناك فرصة قد لا تتكرّر، ولا يملك لبنان ترف انتظار فرصة أخرى قد تأتي وقد لا تأتي. والفرصة اليوم شبيهة بالفرصة التي لاحت مع القرار 1559 واستفاد منها لبنان لإخراج الجيش السوري، ولكنه فوّت على نفسه فرصة التخلّص من سلاح «حزب الله» في اللحظة نفسها لاعتبارات داخلية وقُصر نظر سياسي.

وان يستفيد لبنان من السياسة الأميركية المُستجدة لا يُعد تآمراً على فريق لبناني داخلي. لأنّ المطروح ليس عزل هذا الفريق ولا إخراجه من السلطة ولا تحجيمه ولا فرض وصاية عليه، كما فعلت الوصاية السورية مع القوى السيادية، إنما المطروح أن لا يكون هناك سلاح غير سلاح الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية، وان يكون القرار اللبناني الاستراتيجي مُلك مجلس الوزراء وحده والذي يشارك فيه هذا الفريق كمكون تمثيلي لبيئته. وبالتالي المطروح ليس إعتداءً على أحد، بل هو تصحيح للإعتداء القائم على السيادة اللبنانية.

ومن هذا المنطلق يجب الاستفادة من التوجّه الأميركي، خصوصاً انّ «حزب الله» لن يسلّم سلاحه من تلقاء نفسه ولو بعد قرن من الآن، ولا مصلحة لبنانية بالدخول في مواجهة مع الحزب تؤدي الى تدمير لبنان، فيما يجب الاستفادة من الموجة الدولية بغية استخدامها في الضغط على الحزب لتسليم سلاحه تحقيقاً لأهداف لبنانية وليس أميركية.

- وجهة النظر الثانية تقول إنّ بومبيو لو جاء بين عامي 2007 و2009 لكانت وجهة النظر الأولى صحيحة، إذ كان لبنان في عزّ الانقسام بين 8 و 14 آذار التي كانت في الموقع الدفاعي عن سيادة لبنان واستقلاله. وفي تلك اللحظة الانقسامية كان مبرراً التموضع خلف الموقف الأميركي، خصوصاً انّ «حزب الله» كان يستخدم كل الأسلحة السياسية والمحظورة لإعادة عقارب الساعة الى زمن الوصاية السورية، ومن حق 14 آذار البديهي ان تدافع عن نفسها في مواجهة الاغتيالات والسلاح وغيرهما.

ولكن، ما يختلف بين الأمس واليوم ثلاثة عناصر أساسية: غياب الاصطفافات العمودية، فيما إحياء 14 آذار يعني إحياءً لـ 8 آذار، وعودة على بدء في نزاع من دون أفق زمني واضح. التبريد الذي حلّ مكان التسخين السياسي ولا مصلحة لبنانية بإعادة تعبئة الأوضاع وتشنيجها. والإطاحة بالانتظام المؤسساتي غير المسبوق الذي يشهده لبنان منذ التسوية الرئاسية.

فلكل ظرف سياسي أحكامه. حيث انّ الانقسام والنزاع المثقوب السقوف شيء، والاستقرار الذي يشهده لبنان اليوم شيء مختلف تماماً. فما كان طبيعياً بين عامي 2007 و2010 لم يعد كذلك اليوم، خصوصاً انّ التصعيد الأميركي لا يترافق مع خطة عملية على أرض الواقع، الأمر الذي يعني خسارة لبنان لاستقراره وانتظامه وإدخاله في المجهول، في الوقت الذي بدّل «حزب الله» سلوكه الذي سبق التسوية مع الرئيس سعد الحريري، والتي تُرجمت في حكومة الرئيس تمام سلام. فنسخة «الحزب» الراهنة تختلف عن النسخة السابقة، خصوصاً مع انتقال أولويته، ولو ظاهرياً، من السلاح الى الفساد. ولكن في مطلق الحالات، 14 آذار كانت دوماً في موقع الدفاع ولا مصلحة لها في الانتقال الى موقع الهجوم، وفي معركة يمكن ان يُترك فيها لبنان لمصيره كما هي سوريا والشعب السوري، أو كما كان عليه الوضع في لبنان إبّان الحرب اللبنانية. فحتى لو كانت المجازفة تستحق من أجل سيادة لبنان واستقلاله، ولكن المجازفة يمكن ايضاً ان تطيح لبنان.

ـ وجهة النظر الثالثة تقول انّ دور «حزب الله» لن يتحدّد لبنانياً لا على طاولات الحوار ولا في مؤتمرات «جنيف» و«لوزان» و«الطائف»، ولن يتحدّد سوى على طاولة واحدة وهي طاولة الحوار الأميركية - الإيرانية عاجلا أم آجلا. وبالتالي، من الجريمة بمكان الإطاحة بالاستقرار اللبناني على مذبح الأجندات الدولية والإقليمية، خصوصاً انّ الوضع مع الحزب يختلف عن واقع الحرب اللبنانية التي كانت تستدعي حوارات داخلية وتوافقات دستورية، فيما الحزب يُصّنف دولياً قوة إقليمية أكثر منها محلية، ولا تختلف عن منظمة التحرير الفلسطينية او الوجود السوري في لبنان، فيتعامل معها المجتمع الدولي وفق أجندته وأولوياته التي قد تتناسب أو لا تتناسب مع الأولويات اللبنانية.

فارتباط «حزب الله» العضوي بإيران أخرجه من معادلة الحوار اللبنانية وجعل منه عنواناً لأي حلّ أو مواجهة مع طهران. فلا يمكن الوصول الى تسوية معها من دون تسوية أدوارها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وكل دورها القائم على منطق الثورة واستبداله بمنطق الدولة. وبالتالي، طالما أنّ النزاع في هذه الحدود الدولية الكبرى، لماذا على لبنان ان يُقحم نفسه في نزاع الكبار ويفقد استقراره فيما النتيجة نفسها لبنانياً، بل سيكون مجرد وقود لمعارك غيره، ولكن مع التشديد على ثلاث ملاحظات أساسية:

ـ الملاحظة الأولى، انّ تقاعس الولايات المتحدة وغيرها يتحمّل المسؤولية الكاملة عمّا وصل إليه «حزب الله» اليوم. لأنّ واشنطن لو التزمت مع لبنان في تنفيذ «اتفاق الطائف»، الذي كانت احد رعاته الأساسيين، لكان تمّ حلّ ميليشيا «حزب الله» على غرار حلّ الميليشيات الأخرى. والحزب لم يكن وضعه العام 1991 مقارنة بوضعه العام 2005 وصولاً الى اليوم. بل فضلّت واشنطن ان تُلزّم لبنان لسوريا وتدفيع القوى السيادية ثمن مواقفها اعتقالاً ونفياً.

ـ الملاحظة الثانية، انّ لبنان على قاب قوسين او أدنى من السقوط اقتصادياً وليس سياسياً، في حال لم تُتخذ الإجراءات اللازمة سريعاً. وبالتالي لا بيئة «حزب الله» ولا البيئات الأخرى على استعداد للدخول في اختبارات او مغامرات تدفع لبنان الى الفوضى مجدداً.

ـ الملاحظة الثالثة، عدم الشبك مع التموضع الأميركي الهجومي لا يعني السماح باستخدام لبنان وإسقاط سياسة «النأي بالنفس» او الموافقة على اي تسوية تمسّ «اتفاق الطائف»، بل التمّسك بـ«الستاتيكو» الحالي الذي يُبعد لبنان عن محاور وارسو وأستانة وغيرهما، ويحفظ استقراره وانتظام مؤسساته تحت سقف التسوية وتوازناتها الوطنية. والطرف الذي يخلّ بها يتحمّل المسؤولية عن مترتبات مواقفه وخطواته.