يتقلّب بعض السياسيين في هذه المرحلة بين تصعيد وتهدئة، وإذ قيل انّ الحكومة الجديدة جاءت نتاج تسوية داخلية، والبعض لا ينفي ان تكون خارجية أيضاً، فليس هناك في المقابل من يجد تفسيراً لاستمرار تأرجح مسؤولين وقيادات سياسية بين الايجابية والسلبية، الى درجة ان هناك متأرجحين يشكون «ظُلامة» حاقت بهم في التشكيلة الوزارية الجديدة.
 

الملفت في المشهد السياسي الحالي اندفاع سياسيين الى اتخاذ مواقف «حاسمة وجازمة» واعلان «لاءات» ربما لا تصحّ في العمل السياسي الذي لا عداوات دائمة فيه، فما من عداوة الّا وتنتهي بمصالحة، وما من حرب إلّا وتنتهي بحوارات وتسويات بين المتحاربين سواء داخل الدولة الواحدة او بينها وبين دولة وأخرى. وهذا الواقع ينطبق على بعض القيادات والأحزاب السياسية اللبنانية المتخاصمة في ما بينها، او بينها وبين دول عربية واقليمية.

أمران توقفت عندهما الاوساط السياسية باهتمام كبير في الأيام الأخيرة:

الاول: تأكيد رئيس الحكومة سعد الحريري القاطع أنّه لن يكرّر زيارته اليتيمة لدمشق عام 2009 والتقى خلالها الرئيس بشار الاسد. والثاني تأكيد رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» القاطع أيضاً أنه لن يزور دمشق، وانّ نجله النائب تيمور «لن يزورها وأنا على قيد الحياة»، على حد تعبيره.

الراسخون في علم السياسة يقولون، إنّ لدى كل من الحريري وجنبلاط اسبابه في هذين الموقفين، ولكنهم يعتقدون، في المقابل، انّ المرحلة تفرض على الرجلين والجميع التهدئة ثم التهدئة، لأن ثمة تسويات للأزمات الاقليمية بدأ تحضيرها في المطابخ الدولية، وكانت بدايتها لبنان بتوليد الحكومة بعد تسعة اشهر من الخلافات والمناكفات، وهي ستشمل تباعاً سوريا والعراق واليمن وكل بؤر التوتر في الاقليم، وحتى في شمال افريقيا.

وُينتظر ان تكون موسكو مِعبَر عودة بعض الدول، وكذلك القوى السياسية اللبنانية، الى دمشق، خصوصاً انّ كل المؤشرات تدل الى انّ ثمة تفاهماً اميركياً - روسياً على ان تكون لموسكو اليد الطولى في ترتيب التسوية السورية بين النظام ومعارضيه، وكذلك ترتيب مستقبل الوجود الايراني وغيره من القوى الحليفة للنظام على الاراضي السورية، فضلاً عن اعادة ترتيب العلاقات بين دمشق وبعض الدول العربية، وبعض هذه الدول عاود أخيراً فتح سفاراته في العاصمة السورية.

ويرى هؤلاء السياسيون، انّ تصرفات جنبلاط ومواقفه تعكس في مضامينها ومطاويها جانباً من طبيعة الواقع الجديد الذي بدأ يسود في المنطقة. فمجرد تأكيده دخول المملكة العربية السعودية ومصر «على خط التهدئة» وقوله إنّ «السعوديين يريدون علاقات هادئة مع لبنان لأن لديهم مبادرة الى جانب عودة السياح، تتعلق على ما يبدو بمساعدة لبنان وانجاح الحكومة»، فذلك يدل الى انّ لبنان مقبلٌ على مرحلة من الاستقرار الملحوظ على مختلف المستويات. وهو ما بدأ يردده بعض الديبلوماسيين العرب والاجانب العاملين في بيروت.

وحسب معلومات «الجمهورية»، انّ من ضمن المبادرة السعودية المُنتظرة تجاه لبنان هو إيفاء المملكة بالالتزامات التي قطعتها في مؤتمر «سيدر» لدعمه، ومنها تجديد قرض بقيمة مليار دولار كانت قدّمته له في وقت سابق ولم يتم استخدامه بعد، على أن تواكب هذا الأمر مساعدات أخرى، وإحياء اللجنة العليا اللبنانية - السعودية التي ستبحث في اجتماع يُحضّر له حالياً في تعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات، فضلاً عن البحث في تنفيذ مجموعة من الاتفاقات والبروتوكولات المعقودة بين البلدين او التي يتم إعدادها.

وفيما الحريري يعيش هذه المعطيات المتصلة بصلاحياته، فإنّ جنبلاط ليس بعيداً عنها ويتحرّك حالياً على قاعدة تأمين مصالحه التي لا يخفيها، وهي مصالح متنوعة تبدأ بالسياسة ولا تنتهي بها. فهو على طريقة والده الزعيم كمال جنبلاط يعرف من أين تؤكل الكتف، يُصعّد في جانب لينال من الجانب الآخر، و»يقرأها من فوق ليطلبوا منه ان يقرأها من تحت».

عند تأليف الحكومة اشتبك جنبلاط مع الحريري، اذ فوجىء بتوزير غسان عطالله من بلدة بطمة اللصيقة بالمختارة، وكذلك فوجىء بالبعد الارسلاني لوزير النازحين صالح الغريب، فأوفد الوزير أكرم شهيب الى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع لاحتواء الإشكال الذي حصل بين «القوات» و»الاشتراكي»، حول تبادل بعض الحقائب الذي حاول الحريري اجراءه قبيل التأليف، ما تسبب بخلاف بين الجانبين، ثم جدّد التسوية التي كان حبكها مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حول الحصّة الوزارية الدرزية وتوابعها السياسية، وذلك عبر إيفاد الوزيرين شهيب ووائل ابو فاعور الى بعبدا.

ولكن جنبلاط قرأ في الأيام الأخيرة التطورات الداخلية والخارجية بتعمّق، وانتهى الى مراجعة حساباته المحلية. فبعد تأليف الحكومة زار حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري ووجده غير مرتاح لتصرّفه السياسي الاعتراضي على الحكومة، فما كان منه إلاّ ان زار الحريري لمعالجة شكواه ولكن الاجواء بينهما بعد اللقاء ظلت ملبّدة.

وفي هذه الاثناء، وبعد ساعات على مغادرة وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف بيروت، وصل الموفد الملكي السعودي نزار العلولا ناقلاً التهنئة الملكية السعودية بتأليف الحكومة، وخلال زيارته كان له لقاءين مع كل من الحريري وجنبلاط خارج البرنامج الرسمي للقاءات التي شملت الرئاسات الثلاث بالدرجة الاولى، وكان الفاصل بين لقاءيه مع كل منهما العشاء الذي اقامه العلولا في فندق «فينيسيا» على شرف مجموعة من المرجعيات والقيادات الرسمية والسياسية، حيث جمع بينها في صورة أوحت انّ العلاقة بينهما عادت الى طبيعتها، الا انّ القلوب لم تصفُ كلياً الّا خلال العشاء الذي حصل بين الرجلين في «بيت الوسط» الجمعة الماضي، حيث اكتشف جنبلاط خلاله انّ الخلاف والسجال والتراشق الكلامي لا تفيد، وانّ معالجة الخلافات تُحل بالنقاش المباشر بين المعنيين. على انّ بعض المطلعين يكشفون انّ جنبلاط توصل الى اقتناعه بحل الخلافات بالحوار والتهدئة، بعدما ادرك أن ليس هناك امكانية لإقامة أي تحالف او جبهة سياسية عريضة ضد العهد.

فهو سعى الى تأليف هذه الجبهة بالتحالف بينه وبين «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» مع احتمال إستمالة حركة «أمل» اليها، ولكنه عدل عن ذلك. إذ تبين ان لا ارضية صلبة لهذه الجبهة التي سيكون عليها مواجهة تحالف تيار «المستقبل» و»التيار الوطني الحر»، فيما «حزب الله» قد يشكّل في هذه الحال «بيضة القبان» ولربما لم يكن بعيداً من التيارين «الأزرق» و»البرتقالي»، حسب اعتقاد البعض..