ليسَ كلُ ما يعيشهُ الإنسانُ من الأيامِ والسنوات يلوّنُ مسيرتهُ أو يبقى في الذاكرةِ، وما يضفي صفة غير عادية لعمر المرءِ عبارة عن أحداث قليلة ولن تكون السنوات ماثلةً في الأذهان دون إقترانها بحدث مفصلي في تاريخ البشرية. لذا لايقام الإحتفال بكل التواريخ ولا يتجشم أحد عناء إستعادة الأيام الخاوية والمُتشابهة وهذه الحالة نفسها تسري على حياةِ الشعوب والأُمم. إذ مقابل العودة المُستمرة إلى حقبٍ وفترات معيّنة في سجل التاريخ هناك عقودٌ وسنوات يسودها الركودُ والتتابعُ الرتيب لذلك قد تُمحى من على لوحة الذاكرة.
 

ما شهدتهُ سنوات القرن الفائت من الأحداث السياسية والإختراقات العلمية والتحوّلات الفكرية يضعُ هذا التاريخَ في موقع الصدارة للذاكرة الإنسانية، فكانَ الإحتفاءُ كبيراً بما أنجزَ على مُختلف الأصعدة كما أنّ الخيبةَ عميقة بإرتدادات حضاريةٍ مُتَمَثِّلة بحربين عالميّتين، وتتواردُ في مذكّراتِ معظم المُعاصرين لتقلّبات القرن العشرين تفاصيل دقيقة عن حراكات مُجتمعية ومشاريع إقتصادية وتنموية وجرائم إستعمارية مرعبة، وتصاعد الحركات التحررية.

مقارنة بين عالمين

لكن قلّما حاولَ هؤلاء إجراء المقارنة بين عالمين، عالم ما قبل الحرب وما بعدها، أو أشاروا إلى مؤشرات منبّهة لما يحلُّ على المُجتمعات المُنعمة بالهدوء والرفاهية جرّاء ظهور التيارات الفاشية والنازية التي إستمدّت مشروعيتها من الخطابات القومية المُتطرفة.

قُدِّرَ للكاتب والروائي النمساوي ستيفان تسفايج أن يكونَ شاهداً على ما تمورُ في المُجتمعات الأوروبية من التحوّلات، خصوصاً قبل إندلاع الحرب العالمية الثانية إضافة إلى مراقبته عن كثب لوقائع الحرب الأولى، وتوصّل الأطراف المُتصارعة إلى إبرام الإتفاق لوقفها وما أعقب ذلك من تجدّد الحياةِ ومداعبة الأمل للناس بأنَّ صفحة الحرب قد طُويتْ إلى الأبد.

هذا فضلاً عن إشارة صاحب «لاعب الشطرنج» إلى مشاركته في الحراكات الثقافية حتى لو كانت متواضعةً لإيجاد قنوات التواصل بين النخب الفكرية التي رفضت الإنضواء تحت رايات الحرب.

كل ذلك قد أضفى على مذكراته المعنونة بـ»عالم الأمس» الصادرة من «دار المدى» بترجمة عارف حديفة طابعاً مميزاً، حيثُ تضمُّ بين صفحاتها إلى جانب ذكريات مؤلفها في مراحل الشباب وآرائه بشأنِ طبيعة المجتمع الذي نشأَ على كنفهِ وتشرّبَ من ثقافته تحليلاتٍ وتفسيراتٍ حول الكتابة سواءٌ أكان روايةً أو شعراً.

البداية بالترجمة

إنكبَّ ستيفان تسفايج على ترجمة أعمال الشاعر الفرنسي إميل فيرهارن ويرى في ذلك العمل إضافةً كبيرةً إلى ذائقته الأدبية، لافتاً إلى أنَّه من الضروري للكاتب الشاب الذي لايزالُ مرتاباً من طريقه أن يبادرَ بترجمة عملٍ كبيرٍ.

عُرفَ مؤلفُ «السر الحارق» بكونه روائياً وكاتباً لسير المشاهير غير أنَّه يشيرُ في «عالم الأمس» إلى بداياته في كتابة الشعر وإصداره لديوان يحملُ عنوان «أوتار فضية» ولحَّن ماكس رغنر، وهو كان أعظم الموسيقيين بعد شتراوس بعض نصوص الديوان. يقولُ ستيفان زفايج إنَّه كثيراً ما نمت إلى مسمعه قصائده التي أهملها في الحفلات الموسيقية.

أدب الرحلات

أكثر من ذلك فإنَّ رحلات الكاتب في المدن الأوروبية وزيارته للهند وإيراد مشاهداته ضمن مذكراته يوفر مزيداً من التشويق لأسلوب الكتاب ويكسبهُ خصائص أدب الرحلات.

إذ يصفُ طراز المدن على المستوى المعماري ومناخها الثقافي ناهيك عن تقاليد أهلها في الملبس وإهتماماتهم اليومية طبعاً تفاعل ستيفان تسفايج مع هذه الأجواء وقد أقام علاقات الصداقة مع المفكرين والشعراء كما تواصل مع الوسائط الأدبية.

أثناء زيارته إلى برلين إنفتحَ على بيئة جديدة وفي تلك المدينة كان يلتقي يومياً بشراً جدداً ومختلفين وأنّ الصحبة الفكرية التي تمتع بها هناك بعيداً عن القيود والإكراهات لم يختبرها خلال عشر سنوات.

في مفصل آخر من الكتاب يسردُ صاحب (آموك) حياته الدراسية بمرا حله المُختلفة وممّا يفهمُ حول تلك المرحلة أنَّ تظام التعليم كان يتّصفُ بالتشدد والصرامة مُكتظاً بالواجبات الدراسية، لكنّ ذلك لم يمنعْ ستيفان تسفايج من متابعة القراءة مُستقطعاً من وقته «إنّ إعتيادي السيّئ أن أقرأ ساعة أو ساعتين مهما تأخّرت في النوم قد لازمني منذ ذلك الزمن، ولاأذكرُ أننى إنطلقتُ إلى المدرسة إلّا بنوم قليل، ووجهٍ لم يُغْسَلْ تماماً» كما أغرمَ الكاتبُ بحفلات الموسيقى والمسرح بحيثُ كان ينفقُ مصروفَه لمشاهدة العروض الجديدة وإقتناء الكُتب كما خلت حياته مثل معظم أبناء جيله من المُغامرات العاطفية.

وفي ظلّ التستر على الرغبات العاطفية وعدم إتاحة الفرص للتعبير عنها عبر العلاقات القائمة بين الجنسين تفشت ظاهرة بيع اللذة على نطاق واسع ولكن مع تحوّل المجتمع وترخي القيود والموانع الإجتماعية كسدَ هذا السوق وأحجم الشبابُ عن ممارسة رغباتهم سراً.

وعندما إلتحق ستيفان تسفايج بالجامعة إختار قسم الفلسفة الدقيقة وذلك لم يكن تلبيةً لنداء داخلي بقدر ما هو مناورة للتحرر من الواجبات المُثَقلة لأنَّ مُحاضرات قسم الفلسفة كانت الأسهل إجتناباً. وبذلك صار في متناوله مزيد من الوقت للقراءة ومشاريعه المعرفية والأدبية.

حرم المشاهير

وما شفع لستيفان تسفايج لدى أسرته ليُخالف التيار هو نشر مقاله في صحيفة (neuefreiepresse) وما أن وُجدت مادته في هذا المطبوع الشهير حتى تغيّر تعامل الأهل مع الكاتبِ الواعد بل إمتدَّ أثر مانشره عن (الشعر) خارج أفراد الأسرة.

وكلما دخل الكاتبُ الشابُ محفلاً ثقافياً كانت الأنظار تنصرف إليه ويشيد الحضورُ بإختراقه لحرم الكبار. كان ذلك أول الغيثِ وأصبح تسيفان ستيفايج من أكثر المؤلفين ترجمة في العالم وفقاً لتقرير أصدرته عصبة الأمم المتحدة أنذاك.

ويتفاجأُ بسؤال ناشره الروسي إذا كان موافقاً أن يكتبَ مكسيم غوركي مقدِّمةً لأعماله الكاملة التي ستصدر باللغة الروسية. غير أنَّ مايحزُ في قلب مؤلف (بناة العالم) أنّ أعماله تدرجُ في قائمة المحظورات في عهد هتلر.

لا ينحصر ما يردُ في هذا الكتاب فيما يخصّ حياة مؤلّفه بل الأخير يرصدُ مظاهر الحياة والتقلبات الإقتصادية بإعتبارها عاملاً أساسياً في نشوء الجماعات المتطرّفة كما تراه في موقع المتخصص في علم الإجتماع عندما يتناول طبائع الشعوب. مشيراً في هذا السياق إلى سنوات الفوضي وتدنّي قيمة العملة الوطنية عقب الحرب العالمية الأولى، والمستغرَبُ في الأمر أنّ الشعب النمساوي لم يُخلص للفن مثلما تحوّل إلى هذا المجال في تلك السنوات لأنَّ إنهيار النقد جعل الشعب مُقتنعاً بأنَّ كل شيء زائلٌ ماعدا ما يتّصفُ بالخلود في الأعماق حسب رأي المؤلف.

وفي معرض تحليله لنشوب الحرب العالمية الأولى ينفي تسايفج وجود أيِّ مسوغ معقول كما أنَّ الأمر لاعلاقة له بالأفكار بقدر ماهو نتيجة للقوة الزائدة والدينامية الداخلية التي تراكمت لمدة أربعين سنةً من السلام.

ضفْ إلى ذلك فإنَّ المؤلفَ يقارنُ بين مشاعر الجيلين حيال الحرب فيما إحتشدَ الأول الذي عاصر الحرب الأُولى حول الوطنية وأقبل أبناؤهُ على الحرب مترنّمين بالأغاني فإنَّ الثاني لم تعدْ تخدعه الحرب وفهم بأنَّها ليست رومانسية.

صادف تسفايج رؤية بوادر الحرب الثانية ورأى كتائب المجموعات النازية والفاشية لذلك إعتبر أنّ مفاوضات شامبرلين في مينوخ ليست إلّا فجراً كاذباً لايحولُ دون الإنزلاق نحو حرب كارثية.

مايجدرُ بالذكر أنَّ تسافيج قد رافق عدداً من المفكرين والشعراء منهم ريلكه، ورمان رولان ويبدي إعجاباً شديداً بسمنغويد فرويد وكانت البرازيل محطة أخيرة لتسفايج. هناك ينتحر مع زوجتهِ وأنت تتابعُ صفحات هذا الكتاب يستدعي ذهنك وقائع روايات المؤلف.