كان مارسيل بروست يعتقد أنّ التعقيد يصنع الجمال وكذلك البساطة، وهو اختار الجمال المتولّد من التعقيد في الصياغة والتركيب، بينما هناك من سلكَ اتجاهاً مغايراً واعتمد في أسلوبه على البساطة في التعبير والثيمات لبناء عمله الإبداعي.
 

قد يكون مستوى الدهشة لدى القارىء أكثر عندما يتابع موضوعاً بسيطاً من دون الإلتواءات في إطار منجز أدبي، ويُضْرَبُ بما كتبه أنطون تشيخوف من القصص والروايات القصيرة مثالاً لسحر البساطة، كما ينضمّ الكاتب التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير إلى هذا الخط، ويؤثر مواطنه أنطونيو سكارميتا تناول موضوعات حياتية بسيطة وتعجين الرغبات الإنسانية في التيار السردي، وهذا الأمر تراه بوضوح في روايته «أب سينمائي»، إذ يسرد على لسان الراوي المتكلم بالضمير الأول مناخ قرية كونتولمو، وما يشكّل خصوصية هذه الحاضنة المكانية.

سلاسة السرد

ويبدأ جاك الذي يتكفّل بوظيفة السرد بتحديد موقعه المتواضع على مقربة من الطاحونة. لافتاً إلى تكوينه الجسدي وما يُلوّن أيامه من صوت القطار إلى بعض الأمور الأخرى، كما يشير إلى ما تقوم به الأم من غسل الشراشف، ومن ثم الاستماع إلى الراديو. وما يذكرهُ في الصفحة الأولى من مسلسل الوحدات المسرودة هو بمثابة البطاقة التعريفية.

ويدير دفّة السرد نحو تجربة جديدة في قرية أنغول، حيث درس الثانوية ثمّ إكمال معهد إعداد المُدرّسين في العاصمة، ويبرز في ذات السياق الفرق بين كونتمولو وجارتها ترايغين.

وهنا ينفتحُ قوس السرد على شخصية الأب الفرنسي الذي يُشار إليه من العنوان من دون الإيماءة إليه في المدخل التعريفي. زيادة على ذلك، يروي جاك عن بعض اهتماماته الذاتية والعادات المُكتسبة، إذ يترجمُ الشعر من الفرنسية كما نقلت إليه ممرضة عدوى تدخين السجائر.

إلى هنا، لا يخرج السرد من الذاتية مُتتبعاً سير حياة شخصية واحدة. بيد أنّ جملة ينطقُ بها الراوي تحول باهتمام المتلقي نحو جهة أخرى، بفعل ما تضمره من دلالات ممكنة.

هوية غائمة

ما يقوله جاك عن عودته إلى القرية متزامناً مع مغادرة والده لهذا الفضاء يشدّ أطراف النص إلى صلب القصة، وتعقبُ ذلك مغامرات الراوي وسفره من جديد إلى أنغولا. طبعاً غياب الأب يلقي بظلاله الكئيب على البيت وتذوي الأم في وحدتها المُوحشة مع توارد شذرات من المعلومات عن الغائب تُغلفه غلالة الغموض أكثر.

ولا يفيد كلام مالك الطاحونة جاك، ولا يستدلُ بشيء مما يسمعه لمعرفة سرّ بيير، والدافع وراء سفره إلى باريس وما يتحسّرُ عليه جاك هو أنّ تقاطع عودته مع سفر الأب حال دون أن يرى الأخير شهادة إبنه المتخرّج والعائد لتوّه من سانتياغو.

 

يُشار إلى أنّ السرد يستند إلى بنية التناوب، ولا تكتملُ تقاسيم الشخصيات في مربّع واحد، ويتدرّجُ حزام السرد في الإبانة عن أدوارها التي تخدمُ بنية النص هذا.

وتُضاف شخصيات جديدة إلى فضاء الرواية مع تصاعد حركة السرد، إذ يكون أغوستو غوتييريث عاملاً في إثارة التوتر لدى معلمه عندما يسأله عن الماخور الموجود في أنغولا، وما يكلّف المرء ثمناً قضاء ليلة برفقة بائعة الهوى؟ فما كان من جاك إلا أن قال بعدم جدوى هذا الكلام. غير أنّ أغوستو يؤكد على رغبته في معرفة الحياة وليس هناك من يجدرُ باستجابة لهذه المهمة أكثر من مُعلمه.

وهنا تطفو المفارقة على السطح، باعتراف جاك أنه يجهل تلك الأماكن التي يسأله أغوستو عنها. وعليه، فإنّ جاك يصاحبُ مالك الطاحونة إلى أنغولا، ويرتادُ الاثنان الماخور. وفي هذه الرحلة يحملُ المُعلّم ديواناً شعرياً يريد نشره في صحيفة مُتعاقباً، وبذلك يناور مُتفادياً أي شبهة حول سفره.

مفاجأة

ما يزيد من زخم السرد هو توالدُ القصص التي توفر مزيداً من التشويق في جسد النص. إضافةً إلى مواقف كوميدية مُعبّرة تنسابُ في العلاقات القائمة بين أغوستو ومُعلمه. لكنّ قوة هذه الرواية القصيرة تكمن فيما تتضمّنه من مفاجآت.

ويُلاحظ اهتمام الراوي بالوصف الخارجي مترصّداً تفاصيل دقيقة لتصرّفات الرجل، قبل أن يتم الإعلان بأنّ الأخير هو والد جاك. وما يُضاعف من البعد الجمالي لهذا النص هو التدرّج في الكشف عن حلقة الترابط بين الأحداث، لذلك يرجأ انجلاء العُتْمَة عن والدة إيمليو إلى أن يشارك جاك في حفلة عيد ميلاد، تقتربُ منه إيلينا أخت أوغستو وتبوح له بالسر المُشترك بينهما، وما هو هذا السرّ إلّا إميليو الصغير، مُخبرة إيّاه بأنّ أحداً لا يعرف ما سردته سوى طحان القرية.

والغريب في الأمر أنّ المعلم بدوره يعشقُ تيريسا الأخت الصغيرة لوالدة الطفل، وهي تبادله المشاعر وكانت تكتب له الرسائل، وما يهتم به جاك هو إكمال ترجمة الديوان حتى يسدّد بما يأخذه ديون كريستيان الطحان.

زد إلى ذلك انه يتشوّق إلى تيريسا، ولا يجمعهما اللقاء تحت سقف واحد إلا بعدما يقنع الأم بالسفر إلى أنغولا، مقدّماً لها تذكرة فيلم السبت، وهذا ما يحيلنا إلى لقاء جاك بوالده.

كما تمرّ إشارة إلى خوف الأم من إقدام جاك على الانتحار عطفاً على كل ما سبق، فإنّ أوغستو يسافر إلى أنغولا لأنّه يأبى أن تمضي سنة أخرى من عمره من دون معرفة وجه آخر من الحياة، ويتشجّع أكثر بكلام معلمه بأنّه لن يتكرر ما سبق قبل سنتين حين رُفض على عتبة الماخور.