مابرحتِ المحاولاتُ مستمرةً لربط المفاهيم الفلسفية والفكرية بمشكلات الإنسان اليومية والنزول بتلك الموضوعات التي تُناقشُ في دوائر محدودة بين نخبةٍ من المُهتمّين إلى الشارع. إذ تتوالى الإصدارات حول ما يمكنُ للفلسفة أنْ تقدّمَهُ من الآليات لمُعالجة القلق والتوتر في الحضارة الحديثة.
 

سبق للفيلسوف اليوناني سقراط أن نزعَ من الفلسفة صفتها النخبوية وحوّلَ الأماكن العامة إلى منصةٍ للمُطارحات المفتوحة بشأن ما يهمُ المواطن الإثيني في إطار فلسفي. لكن على المستوى العلمي لاتوجدُ محاولات إلّا نادراً للإنتقال بما توصّل إليه العلماءُ إلى خارج المُختبرات وتقديمها بلغة غير مُعقّدة بحيثُ يتسنّى لغير المُتخصّصين الفهم والإستيعاب لبعض المُعطيات العلمية إذ لا يهتمُ معظمُ الناسِ إلّا بما ينفعهم صحّياً وما ينصحُ به الأطباءُ لتخفيض الوزن، كما أنَّ متابعة الأبراج قد تأخذ النصيب الأوفر أكثر من الشؤون العلمية لدى الغالبية. ومن الملاحظ شحّ المطبوعات العلمية وغياب مساحات مُخصّصة لتناول ظواهر علمية في الصحف والمنابر الإلكترونية. ما يعني إنعدام الثقافة العلمية عند النخبة والعامة على حدٍّ سواء قد يتحملُ الخبراءُ العلميون مسؤولية هذا الوضع. كما أنّ ما يتّصفُ به العلمُ من التجريد والصرامة هو سبب آخر وراء العزوف عن الإهتمام بهذ المجال. أيّاً كانت الحالُ فإنَّ إصدار السيرة الذاتية الموجزة للعالم الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ من دار التنوير بترجمة محمد الجندي قد يكون بدايةً للإلتفات إلى التطور العلمي وتقديم ما أنجزه العلماء خلال مسيرتهم الحياتية بعبارات واضحة، ونحنُ نقولُ ذلك ندركُ أنّ الأمر دونه خرط القتاد ويتطلبُ درايةً وإلماماً بهذا المجال قد لا يتأتّى إلّا لقلة قليلة طبعاً، فإنَّ ستيفن هوكينغ هو من هذه الفئة.

وريثُ غاليلو    
يطيبُ لستيفن هوكينغ أن يقرن تاريخ ميلاده في عام 1942 مع مرور ثلاثمئة سنة على وفاة العالم الإيطالي جاليلو كأنَّه أراد بذلك الإشارة إلى أنَّه وريثُ شخصيةٍ أثارت أفكارُها الجريئة جدلاً واسعاً. وإذا كان جاليلو تمرّدَ على المُعتقدات المتداولة حول الكونِ وشاغبَ بموقفه الداعم لنظرية كوبرنيكوس ما كان بمثابة الثوابت، فإنَّ ستيفن هوكينغ أيضاً خالف رغبةَ والده عندما رفض إرتداء سترة الطبيب. وهو يقولُ إنَّ والده كان يودّ كثيراً أن يدرسَ الطب فيما لم يبدِ ستيفن هوكينغ أيّ اهتمامٍ بعلم الأحياء كونه علماً وصفيّاً وليس أساسياً على حدّ قوله. يعترفُ ستيفن هوكينغ بأنَّه لم يكن أكثر من طالب متوسط المستوى بل أهملَ واجباته الدراسية. كما أثار سوء خطه حنق المدرسين غير أنّ زملاءه لقبوه بـ(آنيشتاين). وربما ما كان عليه من الإهمال هو ما حدا بأحد زملاء الدراسة يراهنُ مع غيره على أنَّ ستيفن هوكينغ لن يحقّق أيَّ نجاح في حياته. يُذكر أنّ والد ستيفن هوكينغ كان طبيباً سافر إلى المناطق الإستوائية لإجراء البحوث في مجال إختصاصه، ويعزو البروفيسور الكامبريجي سرعة غضب والده ونزقه إلى أنّ الأخير كان يشعرُ بأنَّ الآخرين ليسوا بمثل كفاءَته لكن إمتلك هؤلاء خلفية إجتماعية وعلاقات وطيدة ما ساعدهم لتبوُّء مواقع مرموقة.

التحدّي
بعدما يحدّدُ ستيفن هوكينغ مسارَه العلمي ينجحُ في إختباراتٍ تؤهّله للإلتحاق بجامعة أكسفورد، ويدرسُ هناك ثلاث سنوات. وفقاً لما يحسبه فإنه قد قضى ألف ساعة في المذاكرة خلال تلك المدة إذ يُعتبرُ هذا تقصيراً منه لأنَّ الدراسة في تلك المؤسسة العلمية تتطلب وقتاً أكثر. لكن ما أدّى إلى إدراك هذا الأمر هو ما ساد في وسط الشباب أنذاك ألا وهو الشعورُ بأنَّه لا يوجدُ شيءٌ يستحقُ المجهود لذا يتظاهرون بسيماء الضجر. لكن ما يُقنعُ ستيفن هوكينغ بضرورةِ إختيار منحى آخر في حياتهِ هو ظهور بوادر المرض، وهو يعبّرُ عن تأثره بإحتمال موت مبكر مقتنعاً بأنهُ "عندما تواجه شبح الموت في سنّ مبكرة يجعلك هذا تدرك بأنّ الحياة تستحق العيش وأنّ هناك الكثير من الأشياء التي تريد تحقيقها". أراد ستيفن هوكينغ أن يشتغلَ في وظيفة مدنية، شارك في المُقابلات التي يجبُ أن يمرّ بها كل مَن يتقدّم بطلب التعيّن في وظيفة بمجلس العموم وما كان ينقصه سوى الإمتحان الخطي الذي نسي موعده والبتالي ضاعت الفرصة. يبدو أنّ ستيفن هوكينغ كانت لديه شخصية مرحة سافر إلى إيران وتجوّل بين مدنها. ويواصل هذا الشاب النابغ دراسته في جامعة وهو بدأ بإجراء أبحاثه في مجال علم الكونيات والفيزياء الفلكية. إلّا أنّ تدهور الحالة الصحية لستيفن هوكينغ في هذه المرحلة، وعندما يمارسُ رياضة التزلج في الكريستماس يسقطُ ولا يُطاوعه الجسدُ للنهوض ومن ثُم يتمّ اكتشافُ إصابته بالتصلّب المُتعدد، ومن الطبيعي أن يشعر بخيبة الأمل غير أنَّه بدلاً من الإستسلام إلى هذه الحالة يحاول إستيعاب الموقف مقارناً ما يعانيه بما يراه من موتِ طفل بمرض اللوكيميا، بينما يعيشُ ستيفن هوكينغ في التوترِ والقلق يلجأُ إلى فاغنر مستمِداً القوة من موسيقاه. يُقاومُ الكوابيس التي تغزو أحلامه ويقتنعُ بضرورة عمل شيء حتى لو كان متأكّداً بأنَّه سيموت قريباً.

مقعدُ نيوتن
لا تكمنُ عبقريةُ ستيفن هوكينغ في إضافاته لسجلّ التطوّر العلمي حول الإنفجار الكبير والثقوب السوداء وماقاله عن المُتفردات وآرائه عن طبيعة الكونِ والأمواج الثقالية، ونظرته بشأن بقايا النجوم المُنهارة، وما أصدره من الكتب خصوصاً (الهيكل الكبير للزمكان) فحسب، بل إنّ ثقتهِ بنفسه ومعرفته المبكرة لعبقريته والتعهّد لإمكانياته العقلية هي أعظمُ ما حققه في مسيرته ولولا ذلك لما أنجز شيئاً يُذكر على الصعيد العلمي. إذ على رغم جسده المُعاق تزوّج ستيفن هوكينغ مرتين وعاش حياةً طبيعية أضفْ إلى ذلك انْتُخِبَ لمقعد أستاذيّة الرياضيات في كامبريدج أي المنصب الذي شغله سابقاً إسحاق نيوتن. صحيح أنَّ ماحققهُ ستيفن هوكينغ يسجّلهُ بإسمه لكن هو لا يتغافل عن دور الأشخاص الذين ساعدوه في مقدمهم زوجته إيلين التي أسعفته أكثر من مرة وهو على حافة الموت، كما أنّ والت وولتوز وهو خبير في أنظمة الحاسوب ما أن يسمع بمحنة ستيفن هوكينغ حتى يقوم بتطوير برنامج (إيكو الإيزر) يزودُ مؤلف (نظرية كل شيءٍ) بالقدرة على التواصل مع مُتابعيه. ومن المعروف أنّ استفحال الأزمة الصحية لدى هوكينغ حتّمت إستئصالَ حنجرته. إنَّ إنتكاساته الصحية لم تحل دون مشاركته في النشاطات والحملات لجمع التبرعات للجامعة التي كان يدرسُ فيها. يشارُ إلى أنّ ستيفن هوكينغ يرفض فرضية الزمن نحو المستقبل برأيه لو كان هذا الأمرُ ممكناً لكنّا تعرّضنا الآن لغزو السيّاح القادمين من الكواكب الأخرى. يُحسبُ لستيفن هوكينغ محاولاته الدؤوبة لإيصال المعلومات العلمية إلى الجميع بحيثُ يصبحُ العلمُ جزءاً من الثقافة العامة. ومن المعلوم أنّ كتابه (تاريخ موجز للزمن) حقق أعلى مبيعاتٍ كما أصدر مع إبنته لوسي سلسلة (جورج) وهي عبارة عن قصص المغامرات العلمية. توقّع ستيفن هوكينغ بأنَّ الكومبيوتر يتفوّق على الذكاء البشري لذلك يجبُ االحرص على التوافق بين أهدافنا وأهداف أجهزة الكومبيوتر. ما يُستخلص من تجربة هذا العالم الفيزيائي الذي رحل في مطلع 2018 أنّ الأزمة الحقيقية تتمثلُ في الضمور العقلي وليس في الإعاقة الجسدية. وأنّ سرّ تطوّر المجتمعات الغربية هو إدراكها لهذه المعادلة.