لو قيِّد للمؤرّخ الكبير كمال الصّليبي أن يكون على قيد الحياة، لكان بادر إلى تحديث كتابه حول المسألة اللبنانية المعنون «بيت بمنازل كثيرة» بكتاب جديد بعنوان «بيت بنوافذ كثيرة».
 

يعتبر كتاب المؤرخ الصّليبي «بيت بمنازل كثيرة» من أهم المراجع والكتب التاريخية التي عالجت المسألة اللبنانية منذ نشوئها وتطورها وطريقة تفاعلها، وشخّصت بشكل دقيق الأسباب الحقيقية للصراعات اللبنانية بجذورها وخلفياتها العميقة التاريخية والفكرية والثقافية والسياسية، وخلصت إلى اعتبار انّ البيت اللبناني لا يمكن ان ينهض ويتحول دولة مستقرة وموحدة إلّا من خلال توحيد القراءة التاريخية والاتفاق على رؤية مستقبلية تجعل من هذا البيت بمنزل واحد وليس بمنازل كثيرة.

العودة إلى كتاب الصّليبي مردها تغريدة الوزير جبران باسيل في مطلع السنة الجديدة التي قال فيها: «من نافذتي في اللقلوق في أول صباح من العام 2019، أرى في بياض الثلج وازرقاق السماء وبرتقالية الأفق، أرى نافذة أمل وثقة ورؤية لبلدنا، وأرى فيها كل ألوان لبنان… وأستمدّ القوّة لأستكمل ما بدأنا من دون توقّف… وليكون عندنا في بداية الـ2019 حكومة تَجمَع بتضامن وتُمثّل بعدالة وتَحكُم بفعالية».

وأضاف بالعاميّة: «وبقدَر زيد خَضار الأرز وصَفار الشمس وترابية الأرض لأنّي كمان بشوف فيهم شموخ وقوّة وثبات… وبشوف كل لون تراه العين بهالنافذة… لَما حدا ببداية الـ2019 يفسّر غلط أو يقرأ خطأ أو يشوف نَقص».

وقد استحوذت تغريدة باسيل على تعليقات هائلة بالجُملة والمفرّق استخدم فيها كل معلِّق نافذته للكلام عمّا يراه في الوضع اللبناني، من «دواخين» معمل الذوق إلى جبال النفايات وزحمة السير وفقدان السيادة والاستقلال، والسلاح خارج الدولة، وأزمة الكهرباء وانقطاع المياه والبطالة والأزمات البيئية والاجتماعية والمعيشية والسياسية على أنواعها، الأمر الذي يسلِّط الأضواء مجدداً على الواقع اللبناني كما جاء في كتاب الصّليبي «بيت بمنازل كثيرة» او كما جسّدت تغريدة باسيل هذا الواقع «بيت بنوافذ كثيرة».

وقد يكون باسيل أراد من خلال تغريدته أن يعبِّر عن موقف جامع للمكونات اللبنانية الأساسية، وأن يعكس الأمل مع مطلع السنة الجديدة، فجاءه الجواب سريعاً بتذكيره ليس فقط بحجم الانقسام القائم، إنما بحجم الملفات المهملة من أي معالجة جدية وبعد أكثر من سنتين على التسوية الرئاسية.

وكان الأجدر بالوزير باسيل بدلاً من إطلاق تغريدته الجميلة، بلا شك، أن يُخضع نفسه لقراءة نقدية ومراجعة فعلية من أمام شرفته بالذات التي تطلّ على «بياض الثلج وازرقاق السماء وبرتقالية الأفق» لعلّه يخرج بخلاصات تدفعه إلى تغيير أسلوبه الذي جعله في موقع النقيض لتغريدته وعلى خلاف مع كل القوى السياسية وعلى مراحل ودفعات، خصوصاً انّ الوقت لم يفت بعد، والتقاط اللحظة والفرصة ما زال ممكناً ومتاحاً.

فقوة الرئيس ميشال عون تكمن في ثلاثية ذهبية: حيثية تمثيلية مسيحية واسعة، تاريخ نضالي كبير، وجرأة سياسية استثنائية، ويُضاف إلى هذه الثلاثية انه يفترض بعون بعد هذا التاريخ الطويل والذي نجح فيه بالوصول إلى رئاسة الجمهورية أن لا يكون لديه اي هدف باستثناء تحقيق الشعارات التي رفعها وترك بصمة رئاسية تؤسّس للعهود المقبلة، والرهان كان وما زال كبيراً على هذا المستوى، لأنّ ما يستطيع تحقيقه بفعل هذه العوامل أعلاه وبفعل تحالفاته الوطنية التي تبدأ مع «حزب الله» ولا تنتهي مع «القوات اللبنانية» وتيار «المستقبل» و«الإشتراكي» وحركة «أمل»، وحرص الجميع على تجنّب الصدام معه وإنجاح التسوية الرئاسية، يشكّل فرصة حقيقية لمعالجة معضلة أساسية وجوهرية تتعلق ببناء الدولة في لبنان.

والجميع يستذكر الشعار الذي رفعه عون لمعركته الرئاسية بأنه يريد ان يكون الجسر الذي يعيد توحيد اللبنانيين، وقد نجح في تحقيق الانتظام المؤسساتي الذي لم يكن قائماً منذ العام 2005، كذلك نجح في تحقيق التمثيل الصحيح من خلال إقرار قانون انتخاب جديد لم يكن ممكناً إقراره من دون وجوده في بعبدا، ولكن المطلوب وبقوة بعد تشكيل الحكومة أن يكون الضامن لسياسة «النأي بالنفس» التي من دونها لا استقرار ولا انتظام، وأن يركِّز على جانب واحد وهو استعادة ثقة الناس بالدولة والمؤسسات من خلال جعل الدستور والقوانين المرجع الأوحد والفيصل لجميع اللبنانيين.

فما هو مُتاح اليوم ليس نزع سلاح «حزب الله»، إنما الشروع ببناء الدولة التي ستجعل من هذا السلاح هامشياً، لأنّ معادلة نزعه أو تسليمه أو التخلّي عنه أكبر من لبنان، وعلى غرار ما تحققت الشراكة الفعلية في تجسيد واقعي لميثاق العيش المشترك بين اللبنانيين، يمكن بالتأكيد مكافحة الفساد والوصول إلى دولة نزيهة وشفافة، خصوصاً انّ الوجع الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي أصبح عابراً للطوائف والمناطق، ويشكل مدخلاً لتوحيد المنازل اللبنانية أو النوافذ.

فقوة رئيس الجمهورية بموقفه وحيثيته وعلاقاته وجرأته وليس بالثلث المعطّل ولا بوزير بالزائد او بالناقص، ولذلك يجب ان ينهي أزمة التأليف وان يضع معايير واضحة للمرحلة المقبلة، وان يواجه كل من يحاول وضع العصي في دواليب مشروعه لبناء الدولة الذي تريده الناس وبقوة وأكثر من أي وقت مضى.
وعون على تماس مع الناس ولديه الحس الشعبي ويدرك تماماً انّ ثقة الناس اهتزّت كثيراً، ولكن هذا يبقى من ضمن المؤقت في حال نجح في التقاط الفرصة والمبادرة مجدداً، وان تكون الأولوية لإنجاح عهده وليس لتأمين خلافته، خصوصاً انّ إنجاح عهده مسألة رهن إرادته وتصميمه وعزمه إلى حد كبير، فيما تأمين خلافته مسألة رهن العوامل الخارجية والداخلية وتتصل باللحظة السياسية وأولويات القوى السياسية وتحالفاتها وتناقضاتها وخصوماتها.

وقد حان الوقت لإنهاء أزمة التأليف والتفرّغ لمطالب الناس وأولوياتها، وان تكون حكومة العهد الثانية مختلفة عن حكومة العهد الأولى لجهة بناء الدولة ورفع عنوان الشفافية وتطبيق القوانين المرعية، فالسنوات والعهود تمر وبسرعة البرق، ولا يبقى في الذاكرة سوى ما يمكن تحقيقه من إنجازات لها طابع الديمومة والاستمرارية، وهذه هي الطريق الأقصر لإعادة توحيد النوافذ اللبنانية وصولاً إلى بيت بمنزل واحد ونافذة واحدة.