«لو دامت لغيرك لما اتصلت اليك».
تلك الجملة المعبرة المرفوعة، عند مدخل السرايا الكبيرة، تتلبس نجيب ميقاتي، وعلى هديها يخرج من السرايا، راضياً بحكم الديموقراطية التي هي عصب لبنان كما يردد، ومسلّماً بميزة تداول السلطة. وليس لديه ما يقوله للرئيس المكلف تمام سلام سوى «وفقك الله. كل خبرتي بتصرفك».
يخرج ميقاتي من السرايا، غير نادم على ملك فقده، «فهل رئاسة الحكومة هي ملك أبي»، على ان أهم ما يميز «هذا الخروج الديموقراطي» كما يقول، أنني أخرج سليماً معافى من دون أية خدوش كالتي أصابت من سبقني في التربع على كرسي الرئاسة الثالثة. 
يكفيه أن يتذكر كيف خرج سليم الحص وعمر كرامي وفؤاد السنيورة وسعد الحريري، من قبله، حتى يهون مصابه، لا بل هو يعتقد أنه خرج بأفضل مما كان عليه الحال حينما دخل السرايا سواء بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري أو بعد سقوط سعد الحريري.
لا ينسى ميقاتي كيف كان وضعه ضمن طائفته وعلى المستوى الوطني لحظة تكليفه قبل سنتين ونيف. يقول: «انظر أين أصبح الوضع اليوم. ولنقارن بين الأمس واليوم، الناس من حولي أكثر مما كانت يوم التكليف، وأنا سأكون وفيا لهؤلاء وسأعود الى هؤلاء والى عملي السياسي والنيابي مرتاح الضمير».
لن يخرج ميقاتي من المعادلة السياسية ولا من الوجود، كما يشتهي له بعض من «يحبه» سياسياً، وهو لا يعطي وزناً لمقولة انه انتهى وتعرض لخسارة كبرى أو بالأحرى ضربة سياسية قاضية. يطمئن هؤلاء جميعاً أنه سيبقى موجودا، بدوره ومؤسساته وفريقه، ويقول: كل من ينخرط في الشأن العام، ينقسم الناس من حوله معه وضده وهذه سنّة العمل السياسي، ولم يحصل في التاريخ إجماع على سياسي مهما كبر وعلا شأنه.

أنا مرشح للانتخابات

تعلم ميقاتي الكثير من تجربة السنتين الاخيرتين، أما خريطة طريقه بعد السرايا، فهي الانصراف لإعداد العدة لمعركته الانتخابية، «فأنا مرشح للانتخابات، والأهم أنني سأشارك في الإعداد لقانون انتخابي جديد». وقبل ذلك هو باق حتى إشعار آخر في السرايا التزاماً بواجب تصريف الأعمال حتى تسليم الأمانة لخلفه تمام سلام.
يخرج ميقاتي، ولسان حاله يؤكد أن علاقته جيدة مع كل الأطراف من دون استثناء. نبيه بري، «حزب الله»، «القوات»، «الكتائب»، ميشال عون، وحتى مع «تيار المستقبل» وفؤاد السنيورة. «لا أنا لي عليهم شيء، ولا هم لهم علي أي شيء، وليقل لي أحد إنني آذيته، ومن يرد استعادة تجربة الحكومة المستقيلة، فليعطها حقها، أنا لم أتصرف إلا بوحي ضميري وبما يمليه علي واجبي الوطني، ولم أنتظر مكافأة أو مديحا أو شهادة حسن سلوك من أحد، اتركوا الناس تحكم على نجيب ميقاتي».
يسمع ميقاتي وجهات متعددة أن هناك من هو حاقد عليه، وفي مقدمهم سعد الحريري لأنه غدر به في العام 2011، بقبوله رئاسة الحكومة بعد الاستقالة المفروضة. جواب الرجل أن الحقل العام «ليس ملكا حصريا لشخص بل هو حقل رحب ومفتوح أمام الجميع، فإن شعر أحد بأنه قد غدر به فهذا شأنه، أنا لم ولن أغدر بأحد، فقد كانت لي آنذاك قراءتي السياسية للوقائع التي كانت سائدة في تلك الفترة وعلى أساسها قبلت أن أتصدى للمسؤولية الحكومية. ثم اذا كان الغدر هو العنوان، فيجب أن يقال ايضا إن وليد جنبلاط غدر سعد الحريري في 2011، علما أنني لا أعتبر أن جنبلاط قد غدر بالحريري فعلا، فقد تكون لجنبلاط قراءته السياسية ايضا وعلى أساسها تصرّف».
في أي حال، يقول ميقاتي، انه على يقين بأنه سلك الطريق الصح في العام 2011 لترؤس الحكومة، ولو عاد الزمن الى الوراء لكررت ما قمت به مرة ثانية وثالثة، «فموقفي آنذاك لم يكن إلا وطنيا وليس شخصيا، فما كان يعنيني آنذاك هو الوحدة الوطنية وعدم الاصطدام السني الشيعي، وأن أحمي جماعتي وبلدي، وسيذكر التاريخ هل أن ميقاتي، حمى بلده وشعبه أم لا لمدة سنتين».

هكذا حميت لبنان

يقول ميقاتي، على سبيل المثال لا الحصر، يجب أن يتذكر أصحاب الذاكرة الانتقائية أو الضعيفة كيف تم تمرير قطوع تمويل المحكمة الدولية مرتين، وكيف صدر القرار الظني واستطعنا أن نستوعب تداعياته وكل ما هدد السلم الأهلي آنذاك. الأهم من ذلك، هل كان أحد ليصدق أنه يمكن أن يحصل ما يحصل في سوريا، ويبقى لبنان واقفا على رجليه. كل من طرح عليهم هذا السؤال كانوا يقولون إن أي شرارة تصيب سوريا ستحرق لبنان. يجب أن يتذكر من يتقصد النسيان أن مشكلات أمنية كثيرة اعترضت طريقنا، وعلى حراجتها استطعنا أن نحتويها بهدوء وروية، ولعل أعظمها استشهاد اللواء وسام الحسن، وكذلك ما قام به آل المقداد، وحادثة مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد في عكار، وحادثة التعرض للشيخين في العاصمة وحادثة عرسال وقضية الشيخ أحمد الأسير في صيدا ومتفجرة بورغاس وأحداث طرابلس، وقد يأتي اليوم الذي سأورد فيه بالتفصيل الكثير الكثير حول كيفية مقاربتي وبمساعدة آخرين داخليا وخارجيا للكثير من الأمور وكيف انتهت»..
كان ميقاتي يأمل لو أن الكثير من الملفات قد أنجزت، ومنها التعيينات الادارية، لكنه يشير الى ان التعيينات التي تمت بكل مستوياتها لم تشبها شائبة واحدة، وخاصة لناحية التوازنات السياسية والطائفية. الطامة الكبرى أن الفساد مستشر في معظم الادارة وصار لبنان من أكثر دول العالم رشوة وفسادا، «وأنا وحدي لم أكن قادرا على فعل شيء، ويد واحدة لا تصفق. صار المطلوب اتخاذ قرارات كبرى على مستوى أهل الحل والربط بأنه آن الأوان للقضاء على هذه الآفة وأن يقال لمن نهبوا وما زالوا كفى».

بري و«حزب الله» وعون

للإنصاف، يقول ميقاتي: «لم أر من الرئيس نبيه بري وكذلك من «حزب الله» إلا كل خير وتعاون وتسهيل في الكثير من المحطات، حتى جبران باسيل، صحيح أن لديه أسلوبه وطريقته وطبعه الخاص وهناك صعوبة في التعامل معه، ولكن لا أستطيع أن أنكر له إنتاجيته وعمله المنظم والمحترف في وزارة الطاقة».
نجيب ميقاتي، الذي يؤكد أنه سيأتي اليوم الذي سينصف فيه، ليس نادما على الاستقالة. سببها كما يقول «الخوف على قوى الأمن الداخلي من فراغ خطير ومع الأسف لم أوفق في المعالجة»، وسببها ايضا «ان البلد أصبح أشبه ببركة مياه راكدة، ولا بد من تحريكها، خاصة أن الحكومة باتت عاجزة عن القيام بأكثر مما قامت به، فقد أعطت كل ما عندها وباتت عاجزة عن تقديم أي شيء آخر، فضلا عن أن بعض مكوّناتها بدأ يمارس سياسة التعطيل في الآونة الأخيرة».
يقول ميقاتي «لم أستقل كرمى لعين أحد، أو بطلب من أحد، وأنا منسجم مع نفسي. فاستقالتي كانت لإحداث صدمة ايجابية توافقية في البلد، وها هي قد حصلت فعلاً بالاتفاق والاجماع على تسمية الرئيس تمام سلام.
وهناك من بدأ يغزل كلاماً من هنا وهناك بأنني نادم أو ما شابه ذلك. أبدا. دخلت السرايا في وضع معين وأخرج منها بوضع أفضل. لقد كان قبول التكليف كما الاستقالة بهدف واحد هو حماية لبنان. أنا متحالف مع الله سبحانه وتعالى، وقناعتي وإيماني ومنطلقي ومنتهاي أن الخيرة في ما اختاره الله، وليس عباده».

جنبلاط لم يغدرني

لا يعتبر ميقاتي أنه تعرّض للغدر من أحد، وخاصة من وليد جنبلاط الذي ربما له قراءته للمصلحة الوطنية، ويقول «كان المشهد واضحا أمامي من كل جوانبه ولي روايتي وتفسيري ولن أخوض بهما حاليا».
بعد أربعة أو خمسة أيام من استقالة ميقاتيِ، بدأت ترد اليه بعض الاشارات، ومفادها ان الامور تسير في اتجاه مرشح آخر لرئاسة الحكومة، وعندما عاد الوزير وائل ابو فاعور من السعودية تيقن ان سلام هو الشخصية المطروحة لرئاسة الحكومة الجديدة. 
عندها، لم يكن للسياسي الطرابلسي، إلا أن يتمنى التوفيق لرئيس الحكومة البيروتي المكلف، «خاصة أنه ابن بيت سياسي كبير، بالاضافة الى ان أداءه السياسي لا ينقز أحدا، والأمل كل الأمل في أن ينجح بتأليف الحكومة سريعا». 
بعد تكليف سلام، كان ميقاتي أول المتصلين به مهنئاً ومنوهاً بمواقفه في بيان التكليف، مؤكدا له «التعاون معه لحماية لبنان في هذه المرحلة الصعبة وتعزيز الوحدة بين جميع أبنائه».
لدور الدول في ما جرى على مدى الأسبوعين الماضيين، كلام كثير، لا يريد ميقاتي الخوض فيه. وعندما يأتيه السؤال عن علاقته بالمملكة العربية السعودية، يجيب «لم يصلني منها دائما إلا الكلام الطيب».