العلاقات التجارية الصينية الأميركية

بعد إعلان تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، شهدت العلاقات الصينية - الأميركية توتّرات بفعل الحرب الكورية عام 1950، وخلافات البلدين في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، ونزاعاتهما التجارية. رُفع الحظر عن التجارة مع الصين بشكل رسمي عام 1971، ما دفع بالشركات الأميركية لتصدير جملة من المنتجات غير الاستراتيجية إلى الصين. وشكّل اعتراف الرئيس الأمريكي السابق "جيمي كارتر" بسياسة "الصين الواحدة" عام 1979، نقطة تحول في تحسن العلاقات بين البلدين. تصنّف الولايات المتحدة الأميركية كأكبر اقتصاد في العالم، تليها الصين. واحتلت الصين صدارة الشركاء التجاريين مع الولايات المتحدة والمصدّرين إليها. بلغت الواردات الصينية من البضائع الأميركية في العام 2017 نحو 130 مليار دولار، بينما استوردت أميركا منها بقيمة 505 مليارات دولار. حيث سجّل عجز التبادل التجاري رقماً قياسياً بلغ 375 مليار دولار. وشكل العجز التجاري مع الصين في العام 2017 نحو 47 في المئة من إجمالي العجز التجاري الأميركي الهائل مع العالم الخارجي، الذي وصل إلى نحو 796 مليار دولار. بحسب بيانات الجمارك، سجّل الفائض التجاري للصين مع الولايات المتحدة رقماً قياسياً بلغ 31.06 مليار دولار خلال آب من العام الحالي. فقد زادت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بنسبة 13.2 في المئة خلال آب، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، بينما بلغت الواردات من الولايات المتحدة 13.3 مليار دولار أي بزيادة 2% عن العام السابق. وتعتبر الصين أكبر دائني الولايات المتحدة الخارجيين بحسب وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، فقد بلغت استثماراتها بنهاية شهر آذار 2016 نحو 1.244 تريليون دولار في الديون الأميركية. كما وصلت الاستثمارات المباشرة بين الصين والولايات المتحدة عام 2017 إلى 60 مليار دولار. مع العلم أن حصة الاستثمارات الصينية بالولايات المتحدة بلغت نحو 46 مليار دولار، في حين لم تتجاوز قيمة الاستثمارات الأميركية في الصين 14 ملياراً. وأوجدت الصين في الأسواق الاميركية 911 ألف وظيفة للعمالة الصينية المدربة. ويوجد نحو 39 مليار دولار فائض لدى الولايات المتحدة من السياحة الصينية. تستورد الولايات المتحدة الألمنيوم والصلب والإلكترونيات والملابس والآلات من الصين، بينما تعتبر الصين أكبر مستورد لفول الصويا من الولايات المتحدة.

حرب الرسوم

منذ استلامه مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، يسعى ترامب إلى تصحيح هذا الخلل التجاري الهائل. ففي آذار 2018 فرضت السلطات الأميركية رسوماً جمركية بنسبة 25% على قائمة بنحو 1300 منتج صيني بسبب ما وصفتها بممارساتها "التجارية غير العادلة". وفي نيسان من العام نفسه فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات الألمنيوم والصلب الصينية. فردّت السلطات الصينية برسوم جمركية مماثلة بنسبة 15% على 128 نوعاً من المنتجات المستوردة من الولايات المتحدة، بما في ذلك الفواكه والمكسرات ولحوم الخنزير. وفي مطلع تموز فرضت الحكومة الأميركية، رسوماً نسبتها 25% على واردات صينية قيمتها 34 مليار دولار، وردّت بيجينغ بفرض رسوم مساوية على صادرات أميركية للصين بالقيمة نفسها. وفي آب، تبادل الجانبان بالفعل فرض رسوم على سلع بقيمة 50 مليار دولار من كل منهما. وفي أيلول وفور إعلان أميركي عن عقوبات جمركية جديدة على المنتجات الصينية بقيمة 16 مليار دولار، فرضت الصين رسوماً جمركيّة مشددة على المنتجات الأميركية المستوردة بالقيمة نفسها. ودخلت الرسوم الجمركية الصينية بنسبة 25% حيّز التنفيذ بعد لحظات على فرض واشنطن رسوماً جمركية. وتُطبق الرسوم على مجموعة واسعة من المنتجات الإلكترونية والبلاستيك والكيماويات ومعدات السكك الحديدية المستوردة من الصين. وفي 24 أيلول دخلت الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة بنسبة 10% حيّز التنفيذ رسمياً، على بضائع صينية مستوردة بقيمة 200 مليار دولار أميركي. فقامت الصين فوراً بتطبيق رسوم جمركية بنسبة 5 أو 10% على منتجات أميركية بقيمة 60 مليار دولار أميركي، في تصعيد للحرب التجارية بينهما. وتراوحت المنتجات الصينية التي فرضت الولايات المتحدة عليها رسوماً بين المكانس الكهربائية والأجهزة المتصلة بالإنترنت، في حين أن السلع الأميركية التي استهدفتها الصين تشمل الغاز الطبيعي المسال وأنواعاً معينة من الطائرات. وتمثّل هذه القضية أحد مصادر التوتر في العلاقات التجارية الأميركية - الصينية، ولا يقتصر الأمر فقط على نسخ برامج الكومبيوتر Software والأفلام DVD، بل يتعدى الأمر ذلك إلى نسخ وتصنيع أدوية وسيارات وقطع غيار طائرات.

التأثير الاقتصادي

إن أبرز قطاعات الاقتصاد الأميركي التي ستتأثر بالحرب التجارية هي قطاع الوظائف، حيث ستلجأ الشركات الأميركية إلى تقليص الوظائف إلى 40% للتعويض عن خسائرها في الأسواق العالمية. حيث قد تصل الوظائف المتأثرة بالحرب التجارية إلى 700 ألف وظيفة في الولايات المتحدة مقابل ما بين 700000 إلى مليون وظيفة في الصين. ومن القطاعات الأخرى المتأثرة بالحرب، قطاع الاستثمارات الأجنبية حيث ستتأثر الشركات الأميركية في الصين، فيما قد تبيع الصين السندات الحكومية الأميركية والمقدرة بنحو 1.2 تريليون دولار، الأمر الذي سينعكس سلباً على أسواق المال العالمية. ومن القطاعات المعرضة للخطر قطاعي الزراعة وإنتاج طائرات "بوينغ"، فثلث الانتاج الأميركي من فول الصويا يذهب للصين بقيمة 13 مليار دولار، إلى جانب 25% من طائرات البوينغ، تقوم في الأساس على ما تشتريه الصين. وحذّر كبير الاقتصاديين في وكالة "بلومبيرغ" للأعمال والإعلام توم أورليك من أن فرض الرسوم الجمركية بين أكبر اقتصادين في العالم، سيؤثر سلباً على معدلات النمو الدولية. ويتوقع خبير اقتصادي في مؤسسة "موديز"، أن تؤدي الحرب التجارية بين بيجينغ وواشنطن إلى شطب نحو نصف النمو الاقتصادي الأميركي الذي تحقق أخيراً خلال العام المقبل، وهو ما سيحدث مع الاقتصاد الصيني أيضاً. ويتوقع خبراء آخرون أن تنزلق الولايات المتحدة والصين وأوروبا في مسار الركود الاقتصادي إذا ما فرض ترامب كل الرسوم الجمركية التي هدد بفرضها، والتي ستطال بضائع بقيمة 560 مليار دولار. ويعتقد الخبراء في المجال الاقتصادي العالمي أن فرض رسوم على واردات تقدر بنحو 100 مليار دولار من شأنه أن يقلص التجارة العالمية بنسبة تصل إلى 0.5 في المئة. وقد نشرت صحيفة "الدايلي تلغراف" البريطانية تقريراً أكدت فيه أن الصين بإمكانها "مالياً" تدمير الولايات المتحدة، ولكنها لا تجرؤ على ذلك، إذ تستطيع في أي وقت أن تشرع في تصفية أذونات الخزانة الأميركية التي تملكها بقيمة 1.2 تريليون دولار، وتحويلها إلى عملات أخرى مثل الجنيه الاسترليني والدولار الأوسترالي، لوقف ارتفاع سعر صرف اليوان. ويتوقع الصينيون أن تنتقل العدوى إلى الرهن العقاري الأميركي والائتمان، لتفجر أزمة مالية في وول ستريت تسمى "أزمة ترامب".

إن هذه الحرب الاقتصادية الشرسة المستعرة ما بين الصين والولايات المتحدة ما هي إلا معركة بين قطبي الاقتصاد العالمي للهيمنة على الاقتصاد العالمي. فهل يعود المنطق والحكمة إلى صانعي القرار أم أننا سنشهد مزيداً من حفلات الجنون الترامبية؟؟