لم يمر كلامُ نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم الذي «أفتى» بعدم جواز الربط بين الاستحقاقين الرئاسي والحكومي، مرورَ الكرام، وإن كانت التوضيحاتُ غير المباشرة التي ضُخّت بعد ساعات من كلامه الاستثنائي، حاولت قطعَ الشك في أن يكون رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل هو المقصود بـ«الفتوى».
 

في الشكل، هضم المعنيون الفرضية «المعمّمة» أنّ رئيس حزب «القوات» سمير جعجع هو المستهدَف، ولكن باطناً، لا تزال الشكوك تغلّف كلامَ قاسم، وتفتّش عن المقاصد من «التنبيه» الذي ألقاه من على المنبر.


اللافت أنّ الإعلام البرتقالي هو الذي سارع إلى الإمسك بجهاز التحكّم بتفسيرات كلام نائب الأمين العام ليصوّب ناحية معراب تحديداً، وينفض التهمة عن رئيس التيار.


حجّة المدافعين عن هذا المنحى تفيد بأنّ قنواتِ الاتّصال والتواصل المثبتة بالفعل لا بالقول بين حليفَي «مار مخايل» تسمح لهما بتجنّب نشر الغسيل على السطح، كما يحصل بين القوى الأخرى. وبالتالي إذا كان «التيار» هو المقصود باعتراض حليفه على شروط التأليف ومساره، كان يُفترض أن تكون الحاضنة الطبيعية لهذا الاعتراض، طاولة النقاش المشتركة داخل الغرف المقفلة، وليس على المنابر الإعلامية. الأمر الذي لم يحصل، ما يعني أنّ باسيل «بريء من دم» انتقاد الضاحية الجنوبية.


لا بل أكثر من ذلك، تؤكد المعلومات المتوافرة من هذه الضفة أنّ اتّصالاتٍ على مستوى رفيع جداً تلت تلك الإطلالة، بين قيادتي «حزب الله» و«التيار العوني» لتوضيح معاني كلام قاسم والتأكيد أنّ باسيل ليس في موقع الاستهداف.


بالنسبة لهؤلاء، صفحةُ العلاقة ناصعة البياض، ولا تعكّر صفوها تأويلاتُ المصطادين في الماء العكر، كما أنّ لكل طرف من التفاهم هامشه في الحراك والمناورة الحكومية التي تبقى تحت سقف المصالح المشتركة.


ولكن بعيداً من ردة الفعل البديهية التي يسارع «حزب الله» إلى إيداعها البريد السريع البرتقالي، يقول أحد المتابعين إنّ التفاهم بين الحليفين يستدعي الفصل بين خطّ العلاقة مع رئيس الجمهورية التي لا تزال تحافظ على متانتها وحرص «حزب الله» في عدم تعريضها للغبار، وبين خطّ العلاقة مع رئيس «التيار الوطني الحر» التي شهدت خلال الأشهر الأخيرة مطبّاتٍ غيرَ مرئية.


عدد «الومضات الحمراء» في شريط العلاقة، صار ملفتاً للنظر، يبدأ بما خفي من تفاهم باسيل مع رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري، ويمر بطبيعة الحال بكلام استنثائي لرئيس «التيار» حول النظرة العقائدية لإسرائيل، ولا ينتهي بالاستحقاق النيابي.


إذ لم يكن سهلاً على «حزب الله»، ولا حدثاً عابراً في مسيرته أن يواجه مرشّحَه في جبيل حسين زعيتر أزمة الانضمام الى لائحة في قلب جبل لبنان حيث كان يُفترض أنّ حليف السنوات العشر وأكثر، أي «التيار الوطني الحر» هو الأكثر نفوذاً وتأثيراً في البيئة المسيحية.


ليس فقط لأنّ التيار العوني أقفل لائحته في وجه زعيتر، بل لأنّ ما سعى «حزب الله» إلى بنائه والمراكمة عليه منذ توقيع «تفاهم مار مخايل»، مُعتقداً أنه بالتحالف مع الحزب المسيحي الأقوى، سيَجد له موطئَ قدم في البيئة المسيحية، بَدا في تلك اللحظة «سراباً».


لحظاتُ تمايز سياسي دقيقة عبّر عنها باسيل في أكثر من محطة، ولو أنه عاد وصَوّبها أو وضّحها، لكنها بالنتيجة زرعت بذور الشك في نيّاته وأبعاده، وأدخلت العلاقة سجن التأويلات.


هكذا، ثمّة مَن يرى في كلام قاسم رسالة متعددة الاتّجاهات، يُفترض على الجميع التقاط إشاراتها سريعاً لجهة سعي «حزب الله» لرسم خط فاصل بـ«الأحمر العريض» بين «طبخة» الحكومة و«وليمة» الرئاسة. وسواءٌ كان حليف السنوات الـ13 هو المقصود أم لا، صار على الأخير أن يعدّ للمئة قبل محاولة المزاوجة بين الوعائين.


وهنا بيت القصيد: ما انسحب على عهد ميشال عون قد يكون المرة الأولى والأخيرة، والوعد الذي منحه «حزب الله» لرئيس «تكتل التغيير والإصلاح» بالوقوف إلى جانبه في سرّاء الرئاسة وضرّائها، قد لا يشمل مَن يريده عون خليفة له. إذاً، قواعد الاستحقاق الرئاسي لما بعد السنوات الأربع لن تتحدّد في هذه اللحظة بالذات.


يضيف هؤلاء أنّ التزام «حزب الله» الصمت تجاه المناوشات الحاصلة على ساحة التأليف فيها أكثر من مؤشر. خلال خطابه الأخير تقصّد الأمين العام السيد حسن نصر الله تصويب النقاش الحكوميّ من خلال ترحيله ملفّ تطبيع العلاقة مع سوريا إلى ما بعد التأليف ليحوّله بنداً عادياً على طاولة مجلس الوزراء.


ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أنّ «حزب الله» سجّل حرصاً استثنائياً على نزع فتيل التفجير من صاعق العلاقة مع سوريا والذي كان يتّخذه البعض حجّةً لكي يزيد من تعقيدات التأليف. ويقول أحد المعنيين بالطبخة إنّ رسالة «حزب الله» كانت واضحة في هذا الاتّجاه: نريد سعد الحريري رئيساً للحكومة، ولن يكون ملفّ العلاقة الثنائية مع «الجارة» حجّةً لإحراحه ومن ثمّ إخراجه. أما غير ذلك فتنأى الضاحية الجنوبية بنفسها عن معارك التأليف.


وبالتالي كان من الممكن لنصر الله أن يتدخّل لمصلحة حليفه البرتقالي لو أراد، أقلّه من خلال تكريس مطلب الثلث المعطل الذي يريده باسيل بالتضامن والتكافل مع الرئاسة الأولى. يقول وزير بارز لصيق بمشاورات التأليف، إنّ الثنائي الشيعي غيرُ متحمّس لوضع هذا الثلث المؤثّر في قبضة أيّ فريق، وإلّا لكنّا سمعنا كلاماً آخر يصدر عن الضاحية الجنوبية يكون بمثابة ضوء أخضر لرئيس «التيار الوطني الحر» للضغط أكثر في سبيل تحصيل 11 وزيراً. لكنّ صمت «الحزب» في هذه المسألة بالذات، «من ذهب».