في رواية «جُوَّنتنامو»، يحاول الروائي يوسف زيدان بأسلوبه البليغ القوي الذي تعزّز عنده في روايته الأشهر «عزازيل»، أن يربط بين العلّة والمعلول، والإرهاب الدائم والإرهاب الوليد، بمعنى أن يعالج الأزمة السياسية بين عام 2002 وحتى الوقت الذي أدّت به تلك الشدّة إلى انهيارات وأحكام جديدة.
 

في رحلته من سجون أفغانستان وحتى وصوله إلى المعتقل الأميركي في كوبا «جونتنامو»، يسرد بطل الرواية السوداني الأصل، وقائع أسره بأسلوبٍ ديني يتضرّع به إلى الله لينتشله من أزمته رغم تعرّضه لمحاولات التحرّش والاغتصاب والهزء والسخرية من قبل الجنود في السجن، واضمحلال روحه في ظل الاستبداد العنيف الذي يسود القذارة والبؤس في سجنٍ غير مؤهّل للإنسان، بل يكاد يستحيل إلى دغل من أدغال الحيوانات التي يتمّ صيدها وقتلها وسلخ جلدها.

أسوأ من الإرهابيين

مع إسلاميين متشدّدين، يؤسر البطل رغم نفيه المتكرّر لعلاقته بـ «بن لادن» أو انتمائه إلى حركة طالبان، وتأكيده بأنّ «المارينز» هم أكثر عداوة واستفحاشاً في التعامل الإنساني من الإرهابيين أنفسهم، فهل هذا تبرير مبطّن للدفاع عنهم في نظر الكاتب؟ وهل يرمز في أنّ الإرهاب الأميركي قد ولّد إرهاباً آخر، وأنّ الإثنين مشتركان في الجرم أو أنّه يبالغ في الذود عن التجمّع الإرهابي الذي يتّخذ من ادّعائه الإيمان وتشبّثه بالإسلام راية خادعة لتبرير أعماله الإجرامية؟

التصوّف

التصوّف يرافق البطل حتى نهاية الرواية، فهو يخاطب الله بابتهال وخشوع ويحمل القرآن في قلبه خلال اللحظات العصيبة التي تعترضه، من تعرّضه للضرب المبرح، ومحاولة المجنّدة سالي التحرّش به ومقاومتها، واستحضار طيف حبيبته نورا التي عشقها قبل زواجه، وتعلّقه بزوجته مهيرة التي تركها في قطر قبل ذهابه إلى أفغانستان ليعمل كمراسل صحافي، حيث قبض عليه هناك بتهمة الإنتماء إلى حركة طالبان، فخانته وهربت مع عشيقها حسبما أطلعه الضابط الأميركي، وسارة الطبيبة النفسانية الجميلة التي عالجته خلال إقامته في السجن، فتعلّق بها.

يوميات سجين

هي مذكرات شبيهة بيوميات سجين معتقل خائر القوى لا يمتلك سلاحاً إلّا الصبر، وولوج إلى عالم السياسة الأميركية، حيث يلمّح الكاتب في نهايتها بأنّ الإفراج عن البطل كان مرتبطاً بتأهيله للخوض في استقبال الحكم الإسلامي في مصر، وكان ذلك عام 2007، أي قبل اندلاع ثورة يناير بسنوات قليلة. ما يعني بأنّه يعلن تبنّي أميركا لتلك الحركة الإسلامية التي تزعّمها الرئيس المخلوع محمد مرسي.

تبرير للإرهاب

يوسف زيدان لم يتقن صياغة «حبكته السياسية»، فتضرّجت بالألوان وانعكست تبريرات للإرهاب الوليد الذي جاء في نظره نتيجة إرهابٍ أجنبي غاشم، وتعلّق بتلابيب قصصٍ ذاوية في الحرقة والحسرة لمحبوسين مع البطل، علّل لنا بطريقة غير مباشرة سلوكهم السياسي الذي أتى نتيجة إحباطات اجتماعية وتراكمات حياتية. فهل هذا مبرّرٌ كافٍ؟ وهل توهّج عنده حسّ الغلو في تلك الأفكار عندما عاد عن رأيه خلال أحداث الرواية، وعرض تصرّفات خرقاء للمسجونين الذين أحلّوا دم البطل عندما أنكر وجود الجن، ورموه بالقاذورات وكادوا يفتكون به؟ فقد ضعنا نوعاً ما من خلال محاولاته التعاطف مع هؤلاء المساجين ثم التهجّم على تصرفاتهم الشنعاء، فتصادمت الأحداث بعضها ببعض وتسارعت نبضات السرد، وساد الوجوم في تكرار يوميّات الضرب والصبر والتنكيل والتهويل.

إطالة وتشويق

الإطالة تتجمّع في دائرة مغلقة، رغم براعة أسلوب زيدان الذي لا يحيد عن التحكّم بالتوجّهات النفسانية والتعاقبية لبطل الرواية، ولكنّ التوجّس وعنصر التشويق بقي رنّاناً يأخذ بأنفاس القارئ حتى السطر الأخير.


التلميحات السياسية، والتباين الجلي في أفكار الراوي، لم يفقدا من بريق الرواية التي يسيل لها البصر اشتياقاً للنهاية، وقد أتت بعودة البطل إلى مصر على متن طائرة، تتجاذبه أفكار الحنين وتأخذه إلى سديم آخر لا ينتمي إليه إلّا المتصوّفون المؤمنون بالله وحكمته.