نجدُ في لبنان قصوراً في التوجيه العلمي، فقد لا يرى كثيرون من مديري المدارس الخاصّة حاجة لمتابعة هذا الشأن
 

تخلقُ العلاقة بين التعليم، الإختصاصات الجامعيّة وسوق العمل، جدليّةً لأسباب عدّة خصوصًا وأنّها أساسيّات في المُجتمع، وبإستطاعتها أن تدفعهُ إلى التقدّم، شرط التنسيق بين الوزارات والمنظمات والهيئات المعنيّة، أو إلى إندحار المجتمع نحو الهاوية لفقدان التنسيق وعدم القيام بالأبحاث والدراسات المُناسبة بين التعليم وسوق العمل، وهي الركن الأساس والصلب في تمكين الدولة وتطوّرها.

 أمّا مُعادلة التعليم والإختصاصات الجامعيّة وسوق العمل، يُمكن إختصارها من الناحية الإقتصاديّة بـِ : "الإنتاج  ـ التوزيع  ـ الإستثمار". على الرغم من أنّ لبنان هو بلد مواكب للعلم والمعرفة، إلّا أنّ المُشكلة تكمنُ في عدم التكامل والتنسيق بين هذه العناصر الأساسيّة المذكورة، بحيث لا يوجد تكيّف بين الإختصاصات الجامعيّة من جهة وحاجات سوق العمل من جهةٍ أخرى.

تُعتبرُ وتيرة التطور الإقتصاديّ والتكنولوجيّ وحاجات سوق العمل أسرع بكثير من وتيرة تطوّر مناهج التعليم، مِمّا يُشكّلُ فجوة لاسيّما وأنّ سرعة التكنولوجيا يَصعبُ جدًّا مُجاراتها أو الإلتحاق بها في المناهج لأنّ هذه الأخيرة لا تتعدّل على الأقل إلّا بعد مرور سنوات عديدة عليها من تاريخ تعديلها.

تُظهرُ الدراسات أنّ مُعدّل كلفة تعليم الولد في لبنان مُنذ الحضانة وحتى تخرّجه من الجامعة قد تفوق المئة ألف دولار، وهذا دليل على أنّ إنتاج الرأسمال البشريّ في لبنان هو إنتاج باهظ  الكلفة، فكلفة التعليم في لبنان هي من بين الأغلى عالميًّا. يُشكّلُ النظام التربوي في لبنان سوق عمل ضخم جداً، فهو يوظّف ما يُقارب 10 في المئة من اليدّ العاملة، ينفق سنويّاً على التربية حوالي 12 في المئة  من الناتج المحلّي بأقلّ تقدير، أمّا مجموع  الإنفاق السنويّ على أقساط  التلاميذ يتجاوز 3 مليار$، لكنّ المُفارقة أنّ إستثمار هذا الرأسمال البشري في سوق العمل هو إستثمار ذو إنتاجيّة ضعيفة جدًّا، كما وأنّ المردود ضعيف بسبب هجرة الأدمغة وتتركّز الهجرة في لبنان على الكفاءات النادرة، إذ تبلغ نسبة الجامعيّين من بين المهاجرين ثلاثة أضعاف نسبتهم من المقيمين. 

إقرأ أيضًا: إضرابات تشلُ قطاع النقل ..هل تستيقظ الدولة من غيبوبتها؟

 

كما لا يُمكننا تجاهل أحد الأسباب الأساسيّة التي ترفعُ من نسبة البطالة عند اللّبنانيّين، وهي رفضهم المهن الوديعة أو المتواضعة، كما عدم إعطائهم قيمة ولا أيّ أهميّة للتعليم المهني والتقني، من هُنا على الوزارات المُختصّة أن تتحمّل مسؤوليّة بفتح مسارات التعليم والقبول بالشهادات المهنيّة كغيرها من الإختصاصات الجامعيّة. هذا يتطلّبُ برنامجًا وطنيًّا ورؤية مستقبليّة واضحة لواقع الشباب اللبناني لتأمين ظروف العمل والاستفادة من الأدمغة وتفادي هجرتها إلى الخارج.

نجدُ في لبنان قصوراً في التوجيه العلمي، فقد لا يرى كثيرون من مديري المدارس الخاصّة حاجة لمتابعة هذا الشأن، لأنّ الطالب عندما يُصبح مُستعدًّا للإنتقال إلى الجامعة، لا يعود زبوناً محتملاً، وبالتالي ليس هناك من حاجةٍ لبذل الجهد وإنفاق المال واستهلاك الوقت في توجيه لن يترجم أرقاماً ترفع من أرباح المدرسة. ومن هنا، نجد قلة من المدارس الرسميّة والخاصّة تُخصّص حصصاً للتوجيه ضمن برامجها التعليميّة.

وفي حديثٍ مع  حياة الحريري، محاضرة جامعيّة في فنون التواصل والإعلام، تقول:" لا أؤمن بأنّ هُناك إختصاصات لم تعد موجودة أو ليس من المُفترض أن تكون موجودة، أرى أنه يجب أن يكون هناك تعديلًا بطريقة تدريس الإختصاصات وطريقة تأهيل أو بالأحرى تدريب الطالب لكي يدخل إلى سوق العمل".

وتابعت الحريري: "اليوم هناك تغييّر عالميًّا وليس فقط في لبنان وطبعًا لبنان سوف يتأثّر بذلك، مثلًا في المجال الذي أدرّسه في الجامعات الإعلام طبعًا هناك العديد من الصحف والمجلات التي قد أقفلت لأن قطاع الإعلام لم يدخل السوق العالمي، وأنا أرى يجب العمل على طريقة توجيه الطالب بالإختصاص الذي هو قد إختاره بطريقة تتناسب مع متطلبات العصر وتتناسب مع السوق والعصر وأدواته".

في بلدٍ يُعاني من بطالة وضعف بسوق العمل، فإنّ البحث عن السبب سيوصل حتمًا إلى سوء التوجيه التربوي لدى طلاب لبنان، الذين يتعلمون ويتخرجون من الجامعات ليكتشفوا "متأخرين" أنّ سوق العمل لا يحتاج إختصاصاتهم، لذا  يستحق أولادنا مُساندتهم بالمعلومات تسهيلاً لسبل إكتشاف الذات وقياس المقدرات، والحماية من خسارة عام جامعي أو أكثر من عمره نتيجة سوء الإختيار، وللتسرب الجامعي حديث آخر يطول.