لا يحتاج القيّمون على مجموعات ما كان يُسمّى «الحراك المدني» أو كل من في باله «موّال معارض» يرغب في إنشاده وإسماعه للرأي العام، إلى كثير من الابتكارات أو «تشغيل» مخيّلته لكي يقدّم مادة جذّابة تُحاكي العصب الاعتراضي لدى الجمهور وتُخرجه إلى الشارع... فالسلطة في مختلف ركائزها الدستورية «تُبدع» في أدائها وتضع على «طبق من فضة» شتى أنواع «الارتكابات» و»المخالفات» التي في استطاعتها أن تُشعِل «ألف ثورة».
 

عمليّاً، أثبت الشارع اللبناني خلال السنوات الأخيرة أنّه أرض خصبة للتحركات الاعتراضية، من دون حصر هوية هذا الحراك في العنوان السياسي. لا بل يمكن للملفات المعيشية أن تثير اهتمامه وتُخرجه من منزله للتوجّه إلى الشارع ورفع صوته وموقفه.


لكنّ صناديق الاقتراع سجلت مسافة لا بأس بها بينها وبين الأصوات التي رفعت الـ«لا»، ففَضّل كثيرون من الجبهة الأخيرة إمّا ملازمة المنزل والانكفاء عن جبهات النزاع الانتخابي، وإمّا العودة إلى «بيت طاعة» القوى التقليدية مُنقلبين على أنفسهم تحت تأثير «البروباغندا» القاسية التي شَنّتها قوى السطلة مُستخدمة كل «العدّة» المُتاحة، والتي اعتقد البعض أنها صارت بالية ولم تعد تقنع الجمهور.


مقارنةً بالآمال التي كانت معقودة على الرأي العام الرافض التركيبة السلطوية، فإنّ قلة نادرة صمدت حتى «اليوم الكبير» وبَدت منسجمة مع حالها، فحوّلت اعتراضها أوراقاً اقتراعية صبّت لمصلحة مرشحي «الحراك المدني» أو من يشبههم. وفي لغة الأرقام، تبيّن أنّ هذه المجموعات نالت نحو 45 ألف صوت في كل الدوائر الانتخابية، ما يعني أنّه لو كان لبنان دائرة انتخايبة واحدة لكان «الحراك» اخترق بثلاثة نواب أو أربعة، فيما يصل الرقم إلى نحو 90 ألف صوت اذا ما جمعت كل الأصوات المعارضة الحزبية وغير الحزبية.


أمّا في «التقريش» السياسي، فهذا يعني أنّ تلك المجموعات، التي عبّرت عن نفسها من خلال «تحالف وطني،» لم تنجح جدياً في تقديم نفسها بديلاً من القوى السلطوية ولم تتمكّن من اقناع الجمهور بخطابها وتحالفها، وإن لامسَت همومه ووجعه، لكنها لم تكن ملجأه أو خياره.


لا داعي للتذكير بالمطبّات التي عبرها التحالف قبل ولادته ورؤيته النور لخوض الاستحقاق، وقد طافت الخلافات بين مكوناته على وجه الماء، لتُفقده بعضاً من وهجه، على قاعدة أنه اذا كان أصحاب المشروع غير مقتنعين بفحواه ويَشكون منه فكيف يمكن إقناع الجمهور به؟


إذاً، تضارب أفكار، عناوين عريضة، وخلافات شخصية مصلحية لا تختلف كثيراً عن تلك القائمة بين أهل السلطة، قَضَمت من صدقية «تحالف وطني» وعرّضته للانتقادات، أعادت شرائح كبيرة من الناخبين إلى قواعدهم الأساسية التقليدية، لتخطف فرصة ذهبية كان من الممكن استثمارها لتسجيل أكثر من اختراق في مرمى السلطة.


ولهذا، يبدو أنّ التحدي أمام هذه المجموعات صار أكثر صعوبة لكي تستفيد من الكوّة الصغيرة التي أحدثتها في دائرة بيروت الأولى، ولكي توسّع بقعة الزيت، وتراكِم من حضورها بين الناس، وتصلح ما أفسدته الانتخابات... من دون أن يعني ذلك أنّ النجاح مضمون.


فعلاً، بدأت تلك المجموعات حواراتها الداخلية، التي تهدف بنحو أساسي إلى التفكير بصوت عال بحثاً عن الأطر التنظيمية الأفضل التي تحمي هذا «الحراك» وتحصّنه من «الشخصانية» و«النَتعات» الفردية والشعارات الكبيرة «الهلامية»، لمصلحة المجموعة والعمل الواقعي ذي الصدقية.


وقد عقد حتى الآن أكثر من اجتماع ثنائي، إلى جانب خلوة جامعة ضَمّت كل المجموعات، حيث قدّمت كل واحدة منها ورقة عمل تجسّد رؤيتها للمرحلة المقبلة.


وقد تبيّن، وفق المعلومات، أنّ هناك ثلاثة طروحات قيد التداول والنقاش بين تلك المكونات، وأبرزها:


- يقول الطرح الأول إنّ التحالف انتهى كتحالف انتخابي وقد أدى قسطه للعلى وقام بدوره، وتالياً لا حاجة له بعد الآن ولا بدّ من طَي هذه الصفحة تمهيداً لولادة صيغة جديدة.

- الطرح الثاني يعتقد أصحابه أنّ الاستحقاق أتاح فرصة، على محدوديتها، لا بدّ من استثمارها من خلال فتح الباب أمام المعترضين، من أي خندق أو إطار أتوا، بعد غربلة الأسماء والكوادر «الموروثة» عن مرحلة الانتخابات. وهنا السؤال مطروح أيضاً حول إمكانية انضمام أحزاب معارضة إلى الجبهة الممكن إنشاؤها، اذا ما استقرّ الرأي على هذا الخيار.

- الطرح الثالث يقضي بالـ«تخفّف» من الأطر التنظيمية الضيّقة التي قد تكون «مكروهة» ومرفوضة من الرأي العام، وبالتالي الاكتفاء بالحدّ الأدنى من الكادر التنظيمي الذي يترك الحراك الاعتراضي تياراً شعبياً متفلّتاً من الضوابط و«اللافتات» التي تأسره.