معروفة القصة الشهيرة بين المعلِّم كمال جنبلاط والرئيس فؤاد شهاب الذي كان يبدأ بقراءة مطالب الزعيم الدرزي من آخر اللائحة التي يضمنها مطالبه المباشرة، أي الخدماتية، لا أوّلها المتضمِّن العناوين الكبرى التي تبدأ من الحرب الباردة ولا تنتهي بدور لبنان في محيطه، وضرورة إدخال تعديلات جذرية على الدستور اللبناني ليتماشى مع الوضع الجديد.
 

المغزى الأساس لهذه الرواية التاريخية هو الفهم والتفهُّم بين رئيس يفهم حقيقة الهواجس الجنبلاطية فيلبّي المطالب الواردة في آخر اللائحة من أجل ان يرحِّل الاشتباك في العناوين المسجلة في أولها، وبين زعيم يتفهّم قدرة الرئيس على تلبية بعض مطالبه فيكتفي بالعملي منها ليرحِّل النظري. وأمّا المغزى العملي لهذه الرواية ان التصعيد الجنبلاطي يرتبط حصراً بالمقعد الدرزي الوزاري الثالث، الذي يعتبره من حقه تمثيلياً وميثاقياً، واي تفاوض يجب ان يحصل معه وليس غصباً عنه.


ومعلوم انّ لبنان لا يمكن ان يحكم من خارج قاعدة الفهم والتفهُّم، وحكم الأقوياء يشكل الركيزة الأولى للاستقرار السياسي، فالخلافات باقية ومستمرة، والمهم يكمن في كيفية إدارة تلك الخلافات من اجل تحسين ظروف الناس الحياتية بعيداً عن الصراعات غير المجدية، او اي تفكير بقدرة طرف على ان يحسم على الطرف الآخر.


ويفترض ان يكون الهمّ الأساس لأيّ عهد الإنتاجية السياسية التي لا يمكن تأمينها سوى عن طريق الاستقرار السياسي، واستطراداً الانتظام المؤسساتي، الأمر الذي تحقّق مع العهد الحالي ويجب المحافظة عليه. كما يستدعي الابتعاد قدر الإمكان عن المواجهات «الوجودية» اي التي تمسّ بكيان الطوائف وحضورها السياسي، والإمعان في المواجهات المتّصلة بتطوير البنية الدولتية على أساس معايير واضحة ومحددة وتسري على الجميع.


ومن حق ايّ طرف سياسي ان يتمدّد باتجاه الطوائف الأخرى تحت عنوان العبور إليها بالخطاب والتمثيل، ولكن هذه التجربة لم تنجح فعلياً أقله بعد الحرب، وبعض الحالات والنماذج الموجودة تشكل استثناءً لا قاعدة، وهذا لا يعني انه لا يفترض العمل على تعزيز هذا الجانب، إنما شريطة ان تكون تمثيلية بالفعل لا بالشكل، ولكن الأساس هو في الخطاب العابر للطوائف لا التمثيل الذي يتطلّب مقاربة مختلفة، ما يعني انّ المطلوب هو أن يكون الفرز السياسي من طبيعة وطنية لا طائفية بانتظار الظروف التي تسمح بالانتقال من التحالفات الوطنية إلى بنى حزبية وطنية.


وفي هذا الوقت قد يكون من الأجدى العودة إلى معادلة شهاب وجنبلاط وليس إلى معادلة كميل (شمعون) وكمال (جنبلاط)، لأنّ ظروف الأولى متوافرة في كل لحظة من خلال العودة إلى قاعدة الفهم والتفهّم، فيما الثانية تتطلب ظروفاً وطنية غير متوافرة بعد، وإدارة سياسية تشعر الموحدين بالثقة وتعمل وفق سياسة التراكم، وما يحصل اليوم بين «التيار الوطني الحر» و»الإشتراكي» غير صحي وطنياً وميثاقياً وتعايشياً وسياسياً، ويجب المسارعة إلى حلّه من خلال تفهُّم العهد مطلب «الإشتراكي» بالحصة الوزارية الكاملة.


والتفهُّم هنا لا يعني التراجع او التنازل، لا سمح الله، إنما الاستجابة لمعيار ميثاقي يتمسّك به العهد ويدافع عنه، وما يصحّ مسيحياً يجب ان يصحّ شيعياً وسنياً ودرزياً، والقوى المسيحية التمثيلية يجب ان تكون في طليعة المدافعين عن هذا المبدأ الذي تمّ خرقه على حسابهم وحدهم لأكثر من عقدين ونصف من الزمن. وبالتالي، مسؤوليتهم في تكريس هذه القاعدة وتثبيتها لا الإخلال بها في لحظة شعور بالقوة او النشوة، لأنّ القوة الأساسية هي في احترام قواعد العيش المشترك.


فمن حق العهد أن يتّخذ من النائب طلال ارسلان حليفاً ويوفِّر له كل متطلباته الخدماتية من أجل تعزيز وضعيته وتقويته، ولكن هذا شيء وعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات درزياً شيء مختلف تماماً. ففي الحد الأدنى النائب إرسلان منتخب لأنّ «الإشتراكي» لم يرشِّح أحداً في مواجهته، وفي الحد الأقصى النائب وليد جنبلاط يمثِّل الأكثرية الساحقة داخل الطائفة الدرزية، ولذلك يجب احترام ما أفرزته الانتخابات من وقائع دامغة وثابتة وانتظار الظروف التي تسمح لإرسلان بأن يستعيد أمجاد البيت الإرسلاني.


والاشتباك الذي حصل أخيراً لم يكن يفترض حصوله أساساً، ويجب تطويقه سريعاً عن طريق الإقرار بأنّ مفاتيح التوزير درزياً بيد جنبلاط وحده، وإذا كان من حق العهد الطبيعي إرساء أوثق تحالف مع إرسلان، فيما قوة العهد الحالي مزدوجة: قوته التمثيلية الذاتية التي لا يُستهان بها، وارتكازه على الأقوياء لتثبيت ركائز عهده وتحقيق الإنجازات، ولا يجب التفريط بالشق الثاني كون المواجهة مع الأقوياء ومن دون وجه حق تداعياتها ستكون سلبية على الجميع بالتأكيد.


ويخطئ في المقابل كل من يعطي موقف جنبلاط الانتقادي للعهد أبعاداً خارجية على خلفية زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية او غيرها ربطاً بالتطورات الحاصلة في المنطقة، لأنّ البعد الوحيد الموجود هو بعد محلي وطائفي وميثاقي بامتياز، والدافع الوحيد هو التصعيد بعد ان لمس إصراراً على توزير إرسلان رغم اعتراضاته وخارج ايّ معيار ميثاقي، فيما الهدف من ايّ اتهام من قبيل انّ موقف جنبلاط أبعاده خارجية حَرف الأنظار عن المشكلة الحقيقية ومحاولة القفز فوقها، ومحاولات من هذا القبيل تؤدي إلى تعميق المشكلة بدلاً من حلها، كما يخطئ من يعتقد انّ جنبلاط متروك وطنياً وتحالفاته الداخلية متشعّبة في أكثر من اتجاه ومع أكثر من طرف.


وإذا كان يستحسن معالجة هذه الأزمة عن طريق العهد من اجل تنفيس مناخات الاحتقان التي ارتفع منسوبها مؤخراً، وانطلاقاً من موقع رئاسة الجمهورية الدستوري والمسيحي في آن معاً، فيبادر الرئيس إلى الاتصال برئيس «الإشتراكي» او العكس، وكل ذلك بالاتفاق مع إرسلان، وعلى غرار ما حصل بين عون والرئيس نبيه بري، وفي حال عدم حصول ذلك يجب على إرسلان أن يبادر باتجاهين:


الاتجاه الأول نحو العهد، لشكره على ثقته ودعمه ودخوله في المواجهة دفاعاً عن توزيره حتى النهاية، ولكن حرصه على استعجال التأليف وتبريد المناخات السياسية والطائفية وقطع الطريق على اي توترات درزية-درزية دفعاه إلى التنحّي عن التوزير مقابل استمراره حليفاً للعهد.


الاتجاه الثاني نحو طائفته، للتأكيد انّ دورها وحضورها وفعاليتها واستمراريتها تبقى من ضمن أولويته، وانّ وحدة «البيت الدرزي» فوق كل اعتبار من منطلق انّ وحدة الطائفة تشكّل المدخل للوحدة الوطنية والشراكة مع الطوائف الأخرى، وانّ حدود التنافس الديموقراطي سقفه احترام رأي الأكثرية لا تجاهله.


فلن يستفيد «المير» بشيء إذا خسر طائفته وربح العهد، لأنّ قوته الفعلية متأتية من تمثيله الطائفي، والطائفة باقية ومستمرة فيما العهد سيُخلف بعهود، ولذلك من مصلحته ان يتصالح مع طائفته ويتحالف مع العهد في آن معاً، وتصوير هذا التحالف بأنه لخدمة طائفته وليس كما تراه طائفته اليوم، فهل يبادر؟