بين فترةٍ وأخرى تتمّ عبر وسائل مختلفة إثارةُ موضوع أملاك يهود لبنان، والمطالبة بعدم انتهاكها أو ارتكابِ تجاوزات بحقّها. وفي الغالب تُحرِّك محافلُ يهودية دينية في أوروبا هذه المطالبة، بحيث لا يبدو أنّ إسرائيل الرسمية تقف وراءَها مباشرةً.
 

لقد مضى نحو ربع قرن على هجرة يهود لبنان إلى دول أوروبية وأميركية، ومع ذلك لا تزال أملاكهم، أو ما يتمّ تسميته أملاك الطائفة «الموسوية» (اليهودية) في لبنان تحمل اسمَهم، تصل عائداتها المالية إليهم، وذلك عبر محامين لبنانيين كلّفهم رئيس الطائفة إيزاك آرازي، ويَجني هؤلاء المحامون إيرادات هذه العقارات ويرسِلونها إلى إصحابها في الخارج.

ولكن لماذا يُطرَح موضوع أملاك اليهود في لبنان اليوم؟

السبب هو تحرُّك مفاجئ لكبير حاخامي يهود فرنسا حاييم كورسيا قبل نحو أسبوعين في اتّجاه محافل ديبلوماسية وحقوقية غربية، وأيضاً في اتّجاه الدولة اللبنانية، عبّر خلاله عن احتجاجه على ما يسمّيه «إنتهاكات» ضد مدافن الطائفة اليهودية في صيدا.

وكشَف لبنانيون في باريس، مطّلعون على تحرّكِ كورسيا، أنّه يثير مع الجهات التي يراها أنّها معنية في هذا الأمر قضيةَ هذه المدافن انطلاقاً مِن اتّهامه للدولة اللبنانية بأنّها أقدمت أو هي ستقدِم على انتهاك حرمتِها بسبب طريق ـ أوتوستراد محاذٍ لها.

ويَشتمل تحرُّك الحاحام كورسيا، على توسيط عددٍ من المحافل الديبلوماسية والحقوقية الغربية وضِمنها وزراة الخارجية الفرنسية، بهدفِ فتحِ قناة اتّصال بين الحاخام والدولة اللبنانية، بحجّة أنّه يريد نقلَ شكواه إليها والحصول على تطمينات أو ضمانات منها بأن لا يؤدّي شقُّ الأوتستراد إلى انتهاك حرمةِ المدافن اليهودية في صيدا التي تضمّ 330 مدفناً، وتقع على أرضٍ تبلغ مساحتها نحو 30 ألف متر مربع.

والسؤال الذي يطرح نفسَه، بحسب مصادر مواكِبة هذا الملف في باريس، هو هل إنّ كورسيا يملك فعلاً معلومات عن وجود انتهاك أو احتمال انتهاك لمدافن اليهود في صيدا، علماً أنّ هؤلاء المتابعين يلاحظون أنّ كورسيا لا يَجزم بذلك خلال نقاشاته حول هذا الموضوع؟. واستدراكاً: هل إنّ كبير حاخامي يهود فرنسا، يثير هذا الملف من تلقائه؟ أم أنّ تل أبيب هي التي حرّكته؟ ولماذا طرح هذا الموضوع الآن؟ ولماذا الحديث عن مدافن اليهود في صيدا تحديداً؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تقود إلى طرح المعطيات الأساسية الآتية:

ـ أوّلاً، تشير خريطة توزّع أملاك اليهود في لبنان إلى أنّ أكبرَها موجودة في صيدا وأطرافها. وهذا ما يفسّر لماذا يتمّ افتعال إثارةِ أملاك اليهود في لبنان حالياً انطلاقاً من إبداء كبير حاخامي فرنسا «فزعه» على حرمة المدافن اليهودية في صيدا. وعدا عن صيدا، هناك منازل ليست كثيرة يَملكها يهود، ومعبد قديم في دير القمر وأملاك فردية في منطقتَي الدورة وبرمّانا وغيرها.. وهذه الأملاك والعقارات لا تزال بأسماء أصحابها اليهود الذين غادروا لبنان منذ اكثر من ثلاثين عاماً.

عام 2001 تمّ تسجيل آخِر حركة بيع في عقارات اليهود في صيدا، حيث اشترى متموّلٌ لبناني بستان ليمون في منطقة الغازية، وذلك بالتراضي مع أصحاب العقار وبالاتّفاق مع محامي العائلة اليهودية التي تملكه. وبعد ذلك لوحِظ أنه حصَل تجميد لحركةِ بيعِ عقارات اليهود في صيدا، وعلى رغم من أنّ هذه العقارات والأملاك لا تزال إيجاراتها على العهد القديم، ولا تجني أكثرَ من 200 ألف ليرة أو أكثر بقليل سنوياً، إلّا أنّ أصحابها اليهود يرفضون بيعَها، وذلك بفِعل ضغطِ مؤسساتٍ رسمية إسرائيلية.

ـ ثانياً، يتوقّف متابعون لهذا الملف عند دورٍ أساسي تؤدّيه شخصية يهودية تقيم في أميركا، بصفتها المحرِّكة للحاخام كورسيا لإثارةِ موضوع مدافن اليهود في صيدا الآن. وهذه الشخصية هي رَجل الأعمال اليهودي الصيداوي إيزاك ديوان الذي يتولّى منصبَ مسؤول مهمّ في المصرف المركزي في نيويورك ويتولّى منذ سنوات طويلة الإشرافَ على إدارة أملاكِ يهود لبنان في صيدا تحديداً وحصرياً، ويتولى أيضاً توكيلَ محامين لبنانيين لمتابعة تحصيلِ إيراداتِ العقارات اليهودية في صيدا سنوياً.

وينتهج إيزاك، بحسب مطّلعين على ملف أملاك اليهود في صيدا، سياسةَ الحفاظ على الملكية القانونية اليهودية لهذه الأملاك، من دون أن يعير أيّ اهتمام لِما تجنيهِ من أرباح وعائدات ضئيلة سنوياً، وتسجيل ذلك في وثائق قانونية. وواضحٌ أنّ ديوان، على الرغم من أنه رَجل أعمال ويهتمّ بالاستثمار، إلّا أنه يدير أملاكَ يهود صيدا بعقليةٍ ذات أهداف سياسية وليس تجارية وربحية.

ويحذّر مواكبون لهذا الملف في باريس، من وجود توجّهٍ مستجدّ وإشارةٍ إسرائيلية لدى إيزاك بالتعاون مع الحاخام كورسيا، لرهن مشروع أوتوستراد صيدا، أو أيّ مشروع إنمائي آخر، بموافقة مالكي عقار المدافن اليهودية المحاذية إليه لضمان «حُرمة المدافن». وهدفُ كورسيا ليس الشِقّ الديني من الموضوع، بل تحقيق هدفٍ إسرائيلي ربّما بات مطلوباً في هذه اللحظة السياسية، ومفادُه لفتُ نظرِ العالم إلى ملفّ سيُثار لاحقاً بمقدارٍ أكبر وأوسع، وهو مطالبة تل أبيب بتعويضات لليهود مالكي العقارات في لبنان عن خسائر ترتَّبت عن تركِهم ممتلكاتهم وعدمِ قدرتِهم على الاستثمار فيها.

ومطلبُ التعويضات، سيكون مقدّمةً لطرح قضيةِ أملاك اليهود في لبنان من زاويةٍ سياسية تهدف إلى تطبيق فكرةِِ إسرائيلية قديمة ـ جديدة وهي طرحُ تسوية مبادلة بين يهود الدول العربية الذين هاجروا منها، وأملاكهم في هذه الدول، وبين الفلسطينيين المقيمين في دول اللجوء العربية وأملاكهم في فلسطين: أي ما يُعرف بتسوية اعتبار يهود الدول العربية أيضاً لاجئين ترَكوا أملاكهم، مثلما أنّ الفلسطينيين في الدول العربية لاجئون وترَكوا أملاكهم في فلسطين، والحلّ يكون بأن يتمّ استيعاب حالات اللجوء الفلسطينية واليهودية حيث هي، وتتمّ مبادلة ممتلكات اليهود في الدول العربية بممتلكات اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين. ويُعتبَر لبنان أحد أبرزِ ساحات تطبيق هذا الحلّ الإسرائيلي لنقض حقِّ العودة للفلسطينيين، المنصوصِ في القرار الدولي الرقم 194، نظراً لكونه ثانيَ دولةٍ عربية تستضيف أكبر لجوء فلسطيني.