من جديد، وكما كانت الأحوال خلال الدورات الفائتة لمهرجان كان السينمائي، يبدو البون شاسعاً بين ما يدور في المدينة الفرنسية الفاتنة وما يدور على شاشات الصالات التابعة للمهرجان. ثمة تفاوت كبير هو نفسه التفاوت بين عالم الرفاهية والجمال والأناقة والسيــــــارات والمطاعم الفاخرة الذي يموج في مدينة الجنوب الفرنسي، والعالم كما تعكسه الشاشات في أفلام آتية من أنحاء الكون. ولئن كان في إمكان بعض الأفلام أن تصف حياة وديعة تكاد تكون عادية، مع استثناءات لولاها لما كان هناك سينما وحكايات أفلام، فإن الغالبية العظمى من الأفلام تأتي هذه المرة لتقول لنا «آخر أخبار العالم» وأحياناً عبر المرور بـ «أخبار» قديمة قد يعتقد كثيرون أن الزمن عفا عليها لكن السينمائيين يعرفون كيف ينبشون قبورها للقول كم أنها لا تزال معاصرة.

يصعب حصر المواضيع التي تتوزعها أفلام هذه الدورة، نعني هنا المواضيع التي تستجيب إلى المعايير التي نشير إليها. ولكن ثمة علامات يمكن الإشارة إليها لتتضافر جميعها قائلة كم أن السينما لا تزال، بل باتت أكثر فأكثر، تشكل ضمير العالم الجريح و«المختبر» الذي يكاد يكون وحيداً في تشخيصه أمراض زمننا. وطبعاً لن يمكننا هنا الحديث في الموضوع من دون أن نتوقف بداية عند الفيلم الذي يبدو الأبرز في هذا السياق: فيلم جان- لوك غودار «كتاب صورة» الذي يغري بأن نعتبره الأقرب إلينا كعرب، بالتحديد لأنه يتحدث أكثر من أي فيلم معاصر عن... العرب وأين صار ربيعهم وكيف «جنى الغرب عليهم» وما إلى ذلك من قضايا ترتبط بالراهن العربي عرف غودار بعبقريته المعهودة كيف يؤلف بينها في سينما ليست كالسينما، وتحديداً في قدرته على «إعادة اختراع السينما» من جديد.

ولكي نظل في الدائرة العربية لا بد أن نقوم هنا بنقلة «نوعية» إلى أدنى كثيراً من غودار في سلم التقييم، لنتوقف عند فيلمين يضعهما موضوعاهما مباشرة إلى جانب فيلم غودار من دون أن تكون لهما قيمة تبرر هذه المجاورة. هما فيلمان عن منطقتنا الملتهبة، من تحقيق سينمائيتين، الأولى سورية هي غايا جيجي («قماشي المفضل») التي نقلت الحرب السورية ولو مواربة إلى «كان»، والثانية هي الفرنسية إيفا هوسون صاحبة ما اعتبر «أردأ فيلم في المسابقة الرسمية»، الفيلم الذي أمن حضور «داعش» والإرهاب من خلال حكاية ساذجة عن مجموعة كومندو نسائية كردية وايزيدية تتصدى للإرهاب الداعشي. وفي المقابل إذا كانت القضية الإيرانية حاضرة في سياسات العالم من خلال ضجيج الرئيس ترامب حول الاتفاق النووي الإيراني، فإن فيلم جعفر باناهي المتسابق «ثلاثة وجوه» أعطى القضية الإيرانية حصتها ولو جزئياً من خلال موضوع يدور في مناطق الأقليات الأذرية في إيران. ونعرف أن هذا الدنوّ في حد ذاته يمثل هرطقة بالنسبة إلى الملالي!

مافيا وسياسة

بعد هذا يمكن الإشارة إلى مواضيع تبدو أكثر ابتعاداً عن الهموم المباشرة لمنطقتنا، لكنها تمس عالم اليوم. ولئن كان الإيطالي ماتيو غاروني عاد في فيلمه الجديد «دوغمان» إلى العلاقة بين المافيا والسياسة في بلاده مشاركاً في هذا الموضوع، ومن بعض الجوانب، زميله الصيني جيا جانكي في فيلمه «الرماد هو الأبيض الأكثر نقاءً»، فإن السينما الأوروبية الشرقية التي حضرت بقوة، على الأقل من خلال ثلاثة أفلام أتت تباعاً من روسيا وبولندا وأوكرانيا، أثبتت حضور سياسات تلك المنطقة وأحياناً ما يتعدى الزمن الراهن. فمثلاً، الروسي «الصيف» لكيريل سيريبرينيكوف، عاد من خلال الموسيقى الغورية (الأندرغراوند) إلى لينينغراد زمن الجمود البريجنيفي ليذكرنا بحكاية موسيقي طليعي أبدع فناً هرطوقياً أزعج السلطات حقاً، في وقت غاص زميله البولندي بافيل بافليكوفسكي أبعد قليلاً في الزمن ليقدم في فيلمه «الحرب الباردة» حكاية حب مستحيلة تحت ظل ستالين الذي كان حاكماً مطلقاً على القلوب والعقول في طول «المعسكر الاشتراكي» وعرضه. وفي المناسبة يمكن اعتبار الفيلمين مرشحين جديين لجوائز أساسية. وفي المقابل يمكن التوقف عند تحفة ثالثة من أوروبا الشرقية يمثلها فيلم «دونباس» للأوكراني سيرغاي لوزنيتسا المرشح بدوره لجائزة أساسية في تظاهرة «نظرة ما». صحيح أن هذا الفيلم هو الوحيد ذو الموضوع المعاصر الآتي من العالم الاشتراكي السابق (لكنه على أي حال الأكثر إشارة إلى تواصل وجود العقليات القديمة وكأن شيئاً لم يتغير في ذلك العالم الذي أحدث «تغيّره» زلزالاً قبل عقود)، لكن الأفلام الثلاثة تتضافر لتقول لنا كم أن الجمود كان سيد الموقف ولا يزال سيده في تلك المنطقة من العالم.

في المنقلب الآخر من العالم، إذا كان كثيرون يرون أن العنصرية الأميركية المتجددة كانت هي ما خلق «أسطورة ترامب» منحدرة بالسياسات الأميركية إلى مستويات دنيا لا سابق لها في التاريخ الحديث لهذا البلد، ها هو سبايك لي حامل لواء قضايا الأميركيين الأفارقة في السينما الهوليودية يحاول أن يقلب الآية ليصور حكاية لا تصدق عن أسود تمكن من اختراق تنظيم الكوكلاكس كلان، ليصور لنا من خلال ذلك خلفية تلك العنصرية البيضاء الكأداء في بلد الحلم الأميركي الجديد. ومن الواضح أن سبايك لي الذي يصخب أكثر كثيراً مما يبدع سينمائياً، حقق هذا الفيلم - الكاشف وبشكل صائب عن جزء من العقلية الأميركية - كنوع من الرد الموارب على الردّ الذي كان كلينت إيستوود أفحمه به قبل سنوات حين احتج لي على كون فرقة الجنود الذين رفعوا العلم الأميركي فوق جزيرة إيوجيما اليابانية كانوا كلهم من البيض ولم يضع ايستوود بينهم ولا جندياً أسود. يومها أجابه ايستوود بكل بساطة: الفيلم وهو «رسائل آبائنا» ينطلق من الصورة التاريخية التي التقطها روبرت كابا للجنود الحقيقيين وليس بينهم واحد أسود. إذاً، بالنسبة إلى لي إذا كان السود قد غابوا عن الصورة، وبالتالي عن فيلم إيستوود، فلنقحم واحداً منهم في أوكار العنصريين البيض. والنتيجة تذكير بالقضية العنصرية... لم تضف إلى السينما نفسها ما يغنيها!

«سارقو الحوانيت»

أما ما يغني السينما حقاً، فقد أتى هذه المرة من اليابان، على المستوى السينمائي بالتأكيد ولكن على المستوى الفكري أيضاً. نتحدث هنا عن فيلم «سارقو الحوانيت» للكوري إيدا هيروكازو، فإذا كان هذا المبدع أن عالج سابقاً قضايا العائلة ودورها الاجتماعي وانعكاس تكوينها على حياة الأفراد في أفلام غالباً ما عرضت في دورات سابقة لمهرجان «كان» وتوجت بجائزة من هنا وأخرى من هناك، فإنه في تحفته الجديدة هذه - والتي يمكن المراهنة على نيلها يوم الختام جائزة أساسية وربما السعفة الذهبية أيضاً-، يعمل على إعادة النظر في مفهوم العائلة نفسه فهل السعادة والانسجام في الانتماء إلى عائلة بيولوجية أم أن تكوين عائلة باختيار أفرادها من مشارب هامشية متنوعة أضمن للانسجام والسعادة العائليين. صحيح أن كور إيدا لا يصل إلى جواب قاطع مع نهاية فيلمه، ولا يدنو من موضوعه من خلال عائلة عادية، بل من خلال مجموعة من المهمشين، غير أنه يصل بجرأة مطلقة إلى حدود التحريض على نسف الفكرة العائلية نفسها، ما يجعل فيلمه، الذي قُدّم فرنسيّاً بعنوان «قضية عائلية»، واحداً من الأفلام الأكثر تخريباً في هذه الدورة الكانيّة. ولنضف إلى هذا أن لغته السينمائية المدهشة تتضمن إدارة للممثلين وقلبات مسرحية وتصويراً للأجواء والمشاهد اليابانية واشتغالاً على الحوارات، تجعله واحداً من الأفلام الأكثر إثارة للمتعة السينمائية.

ليس من السهل هنا التوقف عند كل الأفلام التي تحفل بمثل هذا النوع من القضايا الشائكة، والتي تبدو في وقت واحد منتزعة من علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد المعولم وما إلى ذلك من أصناف فكرية لتنصبّ على الشاشات تحليلاً أو غضباً أو تذكيراً، لكن في مقدورنا أيضاً أن نتوقف عند أعمال تؤكد ما نرمي إليه.

فمثلاً بالنسبة إلى قضية العنصرية قد يكون لافتاً أن يؤتى على ذكرها من خلال استعادة حكاية محاكمة وسجن الراحل نيلسون مانديلا من خلال عمل بالشرائط المصورة يركز على أنه لم يكن وحده في محنته بل كان آخرون معه ومنهم زوجته ويلي التي رحلت عن عالمنا قبل إنجاز الفيلم بأسابيع، والفيلم عنوانه «الدولة ضد مانديلا وآخرين». أما قضية الدكتاتورية فيتولاها فيلم شديد الراهنية هو «عشرة أعوام في تايلاند» حققه أربعة مخرجين تايلانديين. أما للإحاطة بهذا كله - وبغيره مما سنعود إليه في مقالات لاحقة - فلدينا طبعاً ذلك الحوار - البورتريه الشيق الذي أجراه المخرج الألماني فيم فندرز مع البابا فرانسيس وشكل إحدى أجمل مفاجآت المهرجان كما سبق أن أشرنا. والحقيقة أن هذا كله يكاد يجعل من دورة «كان» هذا العام الأكثر تسيساً وانفتاحاً على أحوال العالم. وهو ما سوف نعود إليه طبعاً من خلال استعراض الأفلام فرادى، لا سيما بعد صدور أحكام لجنة التحكيم ومعرفة كيف تلقى أفرادها هذه السينما الغريبة والغنية والمفاجئة أحياناً.