لو أن كل الهيئات والمؤسسات والتجمعات العربية من تقدمية وأقل تقدمية، من قومية أو أقل قومية، أتيح لها أمس من الوقت وسرعة التحرك، أن تنعى المفكر اللبناني منح الصلح الذي رحل بعد صراع طويل ومؤلم مع المرض، لاحتاج الأمر الى صفحات بكاملها. ذلك ان «منح بك» لم يكن ومنذ شبابه الباكر ليتوانى عن الإستجابة الى اي تجمع فكري أو فكري – سياسي يطلب منه أن يكون في عداد مؤسسيه. وربما هو كان يجد لذة في الاستجابة، إذ يعرف مسبقاً أن المسألة ستؤمن له جمهوراً من المستمعين هو الذي ما كان يتطلع كثيراً لأن يكون له جمهور من القراء... ولا أن تحتل كتب له مكتباتهم. كان قليل الكتابة جمّ المساجلة والحديث... لكن حديثه كان دائماً من الغنى بحيث إن كثراً، وهو كان دائماً شديد المزاح في شأنهم، يطلعون من جلساته بكتب ودراسات ومقالات كان عزاؤه في «استعارتها» منه انها تنشر أفكاره. فالرجل، على عكس العدد الأكبر من المثقفين العرب، لم يكن يهتم بنشر اسمه بمقدار اهتمامه بنشر افكاره. ولكم عاش كتّاب وصحافيون بفضل تلك الأفكار التي حملت في صحفهم وكتبهم اسماءهم.

هكذا كان منح الصلح وهكذا بقي حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وعلى الأقل قبل ان يستفحل به المرض ويقعده عن ميدان تجواله الأثير: المقاهي ومكاتب الصحافيين من زملائه. ففي هذه الأماكن كان ذلك المفكر العربي المكافح في سبيل التنوير وضد التخلف العربي، لا سيما تخلف الطبقة المثقفة التي كانت اجواؤها تشكل عالمه ويمضي جلّ وقته يسخر من افرادها فيما هؤلاء بالكاد يدركون انهم هم المعنيون فيضحكون لطرائفه ويوافقونه على مواقفه، ويتندرون بكل همسة او كلمة منه، وكلٌ يعتبر نفسه متواطئاً معه. وما اكثر المتواطئين مع منح الصلح وما اكثر «ضحاياه»... ثم ما أكثر طرائفه التي ما كانت اي منها تتسم بأية براءة.

فمنح الصلح الذي آمن باكراً بعروبة لبنان من دون ان يحمّلها وزر اندماجات كان يعرف انها قاتلة، والذي آمن بأن تقدم لبنان والعرب يشترط أولويات تعتمد الدولة طرفاً وحيداً ينظمها، وجد في جمال عبدالناصر على الصعيد العربي كما في فؤاد شهاب على الصعيد اللبناني، نموذجين خلّاقين... لكنه حين طولب من ذاك ومن هذا بأن يترك المقاهي ويخوض العمل الميداني وزيراً أو مديراً أو في أي موقع للمسؤولية، رفض، أو سرعان ما انسحب حين كان الرفض مستحيلاً. رفض وعاد إلى مقاهيه وإلى تجواله، ولكن أيضاً إلى منابر المحاضرات والمؤتمرات والندوات والى جلسات الأصدقاء الآتين لزيارته من كل الأصقاع العربية، لا سيما حين يفشلون في تجاربهم التي كان حذّرهم منها فيعودون صاغرين يسألونه ما العمل.

منح الصلح الراحل عما يقترب من التسعين عاماً وعن عمر أمضاه في التفكير والكتابة والسجالات والبحث عن مستقبل عربي، كان في معظم الأحيان على صواب. وهو ربما كان على صواب لأنه لم يرضَ أبداً أن يفعل شيئاً، مكتفياً بالشرح والتفسير ورصد ما يحدث من حوله. وربما كان هذا ما قاده كذلك الى البقاء عازباً غير مقبل على تحمل مسؤوليات عائلية قد تمنعه من ممارسة «هوايته» ووظيفته في الحياة الغنية التي عاشها: التفكير والبحث عما هو صواب لهذه الأمة التي قال يوماً عن بعض رجالها الكبار من أساتذته الذين علموه: «لقد قارنوا بين بطء حركة تقدمنا وسرعة القوى العاملة على فنائنا فهالهم الفارق، فنهضوا فرسانا ثقافيين وحضاريين يقاتلون بأشخاصهم خطر الزوال الثقافي والحضاري وانطفاء المنارات في العواصم، وسط سبات عميق تعيشه الأمة مع هيئات بلا قضية ومؤسسات من دون روح».

ترى، أفلا ينطبق كلام منح الصلح عليه أيضاً؟