بمقدار ما كان مقلِقاً ما صَدر عن اجتماع بروكسل حول النازحين السوريين، كان غيرَ مفهوم هذا التعاطي اللبناني الغامض، لا بل الملتبس والمتراخي معه، فما صَدر عن اجتماع بروكسل لم يكن الإشارة الأولى حول ما يضمره القرار الدولي حيال مستقبل سوريا والبلدان المحيطة. لذلك كان غريباً هذا التعاطي اللبناني والذي كان أقلَّ مِن عادي قبل وخلال انعقاد مؤتمر بروكسل، فيما كان الاهتمام أكبرَ بكثير وبفارق بعيد مع مؤتمرَي روما وباريس اللذين سبَقا مؤتمر بروكسل بوقتٍ بسيط
 

وما بين مؤتمرَي روما و»سيدر1» ولِدت الموازنة في لبنان على عجَل، وسط ما قيل عن اشتراط دولي بأن يسبق «مساعدات» أو ديونَ « سيدر» صدورُ الموازنة في لبنان، كان لهذا الشرط ما يبرّره لجهة وجوب تخفيض العجز لبلدٍ بات الفساد سِمته الأساسية في المحافل الدولية.

لكنّ البند 49 كان إدراجه شديدَ الغرابة، وقيل إنّ الاشتراط الدولي لصدور الموازنة كان في حقيقته صدور البند 49 والذي عملت جهة مالية لبنانية لها علاقات دولية واسعة على إدراجه بحجّة أنه يساهم في إنعاش الدورة الاقتصادية عبر تحريك قطاع العقارات الجامد تقريباً منذ سنوات عدة.

وإذا ما ربطنا كلّ هذه النقاط وعطفناها على التطوّرات والأحداث في المنطقة نجد أنّ لبنان لا بدّ له من أن يقلق كثيراً.

فعلى المستوى الفلسطيني ـ الاسرائيلي يتحيّن البيت الابيض التوقيت المناسب لطرح ما وصفه «صفقة العصر» والتي تتضمن في احد بنودها ابقاء فلسطينييّ الشتات في اماكن وجودهم، ما يعني ضمناً توطينَ الفلسطينيين في لبنان.

وعلى المستوى السوري هنالك الأخطر: فخلافاً لسذاجة بعض المسؤولين اللبنانيين وسطحيتهم فإنّ إعادة إعمار سوريا سيكون لها معانٍ سياسية وديموغرافية خصوصاً. وهذا ما تدركه العواصم الغربية جيّداً.

فعدا التبدّل السكاني الذي أصابَ الخريطة في سوريا خلال الحرب، وهو ما يعرفه اللبنانيون جيّداً من خلال ما عانوا منه خلال الحرب والأضرار والحرائق التي طاوَلت مراكز السجلّ العقاري لتزولَ معها ملكيات بعض المناطق. وهنالك تبديل سكّاني مدروس، وهو ما ظهر في محطات عدة آخرُها، على سبيل المثال ما حصَل في اليرموك ونقل سكّان كفريا والفوعة إليه بعد ترحيل المقاتلين وأسَرهم.

واذا لم يكن مفهوماً خضوع بعض الآراء اللبنانية لمنطق عدم فتحِ سبلِ إعادة النازحين الى بلادهم، ولو من خلال التفاوض مع دمشق، فإنّ ما هو غير مفهوم ايضاً تسهيل المجتمع الدولي بقاء النازحين السوريين والذي ساهم بطريقة أو بأخرى في غرقِ العبّارات التي كانت تحمل النازحين الى اوروبا.

وفق كلّ ذلك كان على الدولة اللبنانية ان تحضّر جيّداً لمؤتمر بروكسل الذي في المناسبة جاءت نتائج مساعداته المالية ضئيلة جداً، وكان للوفد اللبناني ان يكون مدروساً بنحوٍ افضل، فلماذا غابَ عنه وزير الخارجية جبران باسيل في وقتٍ لا يترك مناسبةً دولية من دون إدراج حضوره؟ ولماذا لم يعترض الوفد اللبناني على المسوّدة التي حصَل عليها قبل انعقاد المؤتمر؟

ما مِن شكّ في أنّ العواصم الغربية تدرك أنّ اللبنانيين منشغلون بمعاركهم الانتخابية، ولو انّ مرحلة ما بعد الانتخابات ستكون خطيرة وسط تقلبات اقليمية هائلة ومصيرية.

لأنّ الواقع الاقليمي ينذِر بجولة جديدة من النزاع السعودي ـ الايراني، ولبنان ساحة من ساحات المواجهة في المنطقة، آثرَت القيادة السعودية اعادةَ ترتيب تفاهمٍ سياسي جديد مع الرئيس سعد الحريري بعد «أزمة الاستقالة» الفاشلة في تشرين الثاني الماضي.

هذا التفاهم السياسي الجديد لم تتّضح الركائز التي يقف عليها ولو أنّ بعض المؤشرات ظهرت خلال المرحلة الانتخابية.

وخلال زيارة الحريري الرسمية الى السعودية لمحوِ الآثار السلبية لأزمة الاستقالة قيل إنّ الحريري آثر عدم طلبِ ايّ مساعدة مالية من القيادة السعودية لتمويل الحملات الانتخابية، ولكنّه اكتفى بالطلب بقطع ايّ مساعدة ماليّة انتخابية عن خصومه من الطائفة السنّية.

والواضح أنّ الحريري أراد بذلك أوّلاً الإثباتَ للقيادة السعودية أنه زعيم حقيقي للطائفة السنّية بقدراته الذاتية ومن دون أيّ مساعدة خارجية، إضافةً الى الطلب بعدم مدّ خصومِه السنّة «بالأوكسيجين» خصوصاً القادرين على التشويش على زعامته.

ووفقَ مصادر ديبلوماسية غربية عليمة فإنّ الحريري سعى لتسويق الوزير جبران باسيل على أنه الشريك الذي يمكن التفاهم معه الآن ومستقبلاً، والواضح انّ الحريري يسعى من خلال ذلك الى تعزيز موقع باسيل في السعودية على حساب رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع تمهيداً للاستحقاق الرئاسي.

وجاءت التحالفات الانتخابية لباسيل انسجاماً مع هذا التوجّه. فالحريري طلب من باسيل عدم التحالف مع خصومِه من الطائفة السنّية مقابل تحالفِ «التيار الوطني والمستقبل» في الدوائر الحسّاسة التي يحتاج اليها باسيل مِثل دائرة زحلة، وشدُّ الحبال الذي سبق إعلان التحالف في زحلة كان مناورةً أكثر منه حقيقة كون القرار كان متّخَذاً قبل ذلك.

في المقابل تجنّبَ باسيل التحالف مع خصوم الحريري، وحتى في صيدا فإنّ الخصم الفعلي بالنسبة لتيار «المستقبل» هو أسامة سعد وليس «الجماعة الاسلامية» التي لن تستطيع إيصال نائب عنها، وهي قادرة على توسيع حضورها الشعبي، فكلّ ما ستفعله هو رفعُ الحاصلِ الانتخابي لينجحَ مرشّحو التيار.
والأهمّ تلك الإشارات التي وظفها الحريري لمصلحة باسيل في السعودية والتي تتعلق بالمقعد الشيعي في دائرة جبيل وتحالفات «التيار الوطني الحر» في دائرة بعلبك - الهرمل.

ويستعدّ الحريري بعد ذلك لخطوات ثلاث:

ـ الأولى، زيارة السعودية وإعادة ترتيب تصوّرٍ موحّد للمرحلة المقبلة في لبنان والتفاهم على كلّ النقاط العالقة، بما فيها المالية منها.

ـ الثانية، ممارسة ضغط معنوي لكي يتجاوز «التيار الوطني الحر» ورئيس الجمهورية قرارَ فصلِ النيابة عن الوزارة وإعادة توزير باسيل كون حضوره في الحكومة أساسياً وفائقَ الأهمّية.

الثالثة: السعي لتطبيق التفاهم مع باسيل حول إبقاء القوات اللبنانية خارج المكوّن الحكومي، وإذا ما أصرّت السعودية بناءً للعلاقة التي ما تزال وثيقة بينها وبين معراب، فالسعيُ لإيلاء «القوات»حقيبتين هامشيتين.

ويتوقّع الحريري ومعه باسيل أن يسعى ايضاً كل من الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط لمنعِ استبعاد «القوات» وإبقائها خارج الحكومة انطلاقاً من حسابات التوازنات الداخلية ومعركة رئاسة الجمهورية المقبلة.

ولن يقف بري هنا، بل سيَسعى ايضاً للتمسك بحقيبة وزارة المال أياً كان الثمن، والسبب ليس فقط مسألة التوقيع الرابع على المراسيم تطبيقاً للتوازنات الطائفية، بل ايضاً للإمساك بالشريان المالي ومِن خلاله الدخول على خط التفاهم بين الحريري وباسيل والذي لا يقتصر فقط على السياسة بل ايضاً على الملفات الاقتصادية. ولم يعُد سرّاً أنّ «حزب الله» الذي سيحاول تقريبَ وجهات النظر بين بري وباسيل سيقف خلف بري في مطلبِه حول وزارة المال.

ولكن هذه الصورة الملبّدة داخلياً بتعقيدات وتشنّجات في مرحلة ما بعد الانتخابات يضاعف من خطورتها التعقيدات الاقليمية. فوفق وسائل الاعلام الاميركية فإنّ إيران قرّرت الردّ على الاستهداف الاسرائيلي لها في سوريا بعد الانتخابات اللبنانية، وهو ما يعني استنتاجين اثنين:

ـ الأوّل، أنّ «حزب الله» مطمئن لنتائج هذه الانتخابات سلفاً وهو يريد إمرار هذه المرحلة لتثبيت هذه التوازنات الجديدة داخل المجلس النيابي.

والثاني، وهو أنّ للساحة اللبنانية علاقةً ما بالتصعيد المنتظر، إن كان مباشرةً او مداورةً، وإلّا فما علاقة انتهاء الانتخابات بالرد الإيراني المتوقّع.

صحيح أنّ الرد قد يكون انطلاقاً من سوريا أو ربّما من داخل اسرائيل، لكن من السذاجة بمكان فصلُ سوريا عن لبنان والاراضي الفلسطينية المحتلة.