نظريًا، وفي عالم مثالي، تدفع الحكومات فواتيرها باستخدام الايرادات المتأتية من الضرائب والاستثمار، وفي حال حصول اي خلل بين الايرادات والنفقات تلجأ الحكومات الى اصدار السندات مع وعد بدفع قيمة السند مع أسعار الفوائد عند استحقاق الدين الوطني، والمعروف ايضا باسم الدين السيادي المكوّن من السندات الداخلية والخارجية
 

تُموّل الديون الداخلية من خلال السياسات المالية والنقدية والضرائب، وتموّل الديون الخارجية من مصارف عالمية ومؤسسات مالية مع فارق ان هذه الديون تكون بالعملة الاجنبية والتي لا يمكن للحكومات السيطرة عليها ولا على فوائدها.

يحصل الافلاس بسبب عدم قدرة الدول او عدم استعدادها لدفع ديونها وغالبا ما يحدث ذلك عندما تتغير الانظمة داخل الدول او بسبب انعدام تدفقات رأس المال وضعف الايرادات. على سبيل المثال لا الحصر، تخلفت جامايكا في العام 2010 عن دفع 7.9 مليار دولار من القروض، وحدث ذلك ايضا في عدد من دول اميركا اللاتينية.

قد تبدو هذه المقاربة نادرة الا ان معظم الدول تخلفت او أعادت تشكيل ديونها على الاقل مرة في تاريخها (The Economist 2014) واليونان احدى هذه الدول التي تخلفت مرارا. وقد بدأ ذلك منذ زمن بعيد، كذلك اسبانيا والتي تخلفت حوالي خمس عشرة مرة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

مما يعني ان التخلف امر وارد في عالمنا هذا مع العلم انه يترتب على ذلك امور عدة، وعلما ان اللجوء الى صندوق النقد الدولي في محاولة لانقاذ ما تبقى ليس بالامر السهل ولا يوجد في الاقتصاد ما يسمى بالوجبة المجانية.

وعادة ما يلجأ صندوق النقد الدولي الى فرض شروط صارمة مثل التقشف وخفض الانفاق وتحرير التجارة وخفض قيمة العملة كما هو منصوص عليه في توافق واشنطن (Washington consensus) اضف الى ذلك الخصخصة والتي هي ضمن الشروط المعروف عنها في صندوق النقد الدولي . وغالبا ما تأتي شروط صندوق النقد عشوائية دون الاخذ بالاعتبار وضعية الدول وحيثياتها.

ويبدو ان الملاذ الوحيد بالنسبة للدائن في حالات عدم السداد هو اعادة التفاوض على احكام القرض واعادة هيكلة الديون والتفاوض على شروطها وهذه الحال ليست بالغريبة سيما مع ما شهدناه مؤخرا في اليونان، ومحاولة اوروبا والصندوق الدولي مساعدتها بفرض شروط تقشفية ومراقبة رأس المال والحد من كمية الاموال التي يمكن ان تسحب. وللعلم في العام 2015 اغلقت المصارف اليونانية قرابة 20 يوما وباتت التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية تقتصر على 50 يورو يوميا لتفادي موضوع ازمة مصرفية.

وتعداد هذه الامور شيء بديهي، والمطالعات التي تأتي من المؤسسات الدولية باتت معروفة واصبحت ملزمة سيما بالنسبة لبلد اصبحت ديونه تفوق الـ 150 بالمائة من الناتج المحلي. تتصدر قائمة الدول المديونة عالميا، حكومات تقترض ليس لتمويل الانفاق انما لسد ثغرات اساسية مثل المعاشات والضمانات والصحة، وهي امور اساسية وبديهية في معظم الدول.

يواجه لبنان ازمة ديون خانقة على اساس ضعف مقاييس الملاءة لديه. وفي المطلق، الاقتراض جيد في حال صرفت الاموال في قطاعات منتجة، انما الاقتراض دون ضوابط باتت تهدد الكيان ككل سيما في حالة الكساد الاقتصادي الحالي وانعدام وجود قطاعات كانت تؤمّن للدولة مداخيل جمة وتحرك الناتج صعودًا مثل السياحة.

والعامل الاهم ليس فقط مستوى الدين الحكومي الاجمالي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الاجمالي انما مدى قدرة بلد ما على تسديد الديون دون تكبد المزيد منها. علما انها تؤدي الى خفض تصنيف الدولة حسب معايير مؤسسات التصنيف العالمية التي عادة ما يلجأ اليها المقترض في حال اراد اقراض الحكومات. وصندوق النقد الدولي يراقب عن كثب هذه المؤشرات، كذلك تفعل الحكومات والمؤسسات المالية العالمية.

وهي من اهم العوامل التي يستند اليها المستثمرون الاجانب في حال قرّروا الاستثمار في هذه الدول. لذلك اي تصنيف سيء ينمّ عن حدوث مخاطر الائتمان. واذا كانت «باريس 4» فرصة للبنان للنهوض مجددًا عبر تحديث البنية التحتية والقطاعات الائتمانية، وجب القول انه ايضًا زيادة على مديونيتنا التي باتت تتخطى حدود المعقول.

والاخطر اذا لم تكن هنالك دول مانحة انما فقط دول مقرضة، والاخطر ان لا يكون هنالك خطة لاعادة هيكلة الدين وحسن صرف اموال «باريس 4». وقد يشترط علينا دائنو «باريس 4» ان نقوم بواجباتنا المنزلية من خفض عجز الموازنة ومحاربة الفساد وتسكير دكاكين المؤسسات الوهمية وتخفيف المصاريف غير الطبيعية والمستحقات الكثيرة لاشخاص انتخبوا ليقوموا بواجبهم الوطني لا اكثر. وحيثية الامور واضحة والمعطيات كثيرة، وهنالك امور عدة وجب القيام بها قبل الذهاب الى «باريس 4» والمسؤولون على علم بذلك.

وماكنزي هي اشارة لافرقاء «باريس 4» بجدية الحكومة اللبنانية في معالجة امور عدة أهمها الفساد والرشوة واقفال دكاكين المنتفعين. والى الذي خاف من ماكنزي اقول له انها قد تكون ضرورة آنية للحصول على قروض اصبحت حيوية لاكمال المسيرة وعدم الجنوح نحو الافلاس.

واذا كانت سنة ٢٠١٩ سنة جديدة لاقتصاد نفطي معين فان علينا ان نكون على استعداد تام لمسيرة الاصلاح هذه، ونترقب الفرص ونستفيد منها ونخلق صندوقا سياديا تحتسب فيه عائدات النفط وتوضع خطة من اجل حسن انفاق هذه الاموال.

اخيرًا، نمر في فترة حرجة جدًا من اقتصادنا وعلينا توخي الحذر والاصرار على الاصلاح من اجل التغيير، والتغيير نحو الافضل والامثل. وقد تكون حيثية الموازنة دليل على مدى اصرار المسؤولين على تنفيذ هذا الاصلاح.