السعودية تعود لتستعيد في لبنان حضورا تاريخيا قديما مسقطة بذلك خيار الغياب الذي طبع منهج الرياض في التعامل مع بيروت في الأشهر الأخيرة
 

أن يروج الحديث عن قيام وفد سعودي رسمي برئاسة وزير الخارجية عادل الجبير بزيارة لبنان قريبا، فذلك يعني أن لقاءات رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في السعودية طوت نهائيا صفحة ملتبسة في علاقات البلدين ودشّنت مقاربة جديدة تطل بها الرياض على بيروت.

ورغم غياب معطيات صلبة عما دار من محادثات في العاصمة السعودية، فإن صورة السيلفي التي نشرها الحريري مع ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان والسفير السعودي في واشنطن الأمير خالد بن سلمان تعكس شكل الأجواء كما مضمونها، وترسل إشارات إلى الداخل اللبناني عن طبيعة العلاقة القديمة الجديدة مع الحريرية السياسية في لبنان.

قد يجوز اعتبار أن الرياض تقارب لبنان كما قاربت قبل ذلك العراق.

تعود السعودية إلى منهج “استعادة” حضورها في العراق الذي لطالما اعتُبر رهانا خاسرا واقعا داخل دائرة النفوذ الإيراني في المنطقة، حتى أن علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني، اختار بغداد عاصمة للإمبراطورية الإيرانية التي أعلنها في مارس 2015، على النحو الذي يعكس مدى قناعة طهران بسقوط العراق كأصل داخل نسيجها الإمبراطوري المزعوم.

وتعود السعودية لتستعيد في لبنان حضورا تاريخيا قديما مُسقطة بذلك خيار الغياب الذي طبع منهج الرياض في التعامل مع بيروت في الأشهر الأخيرة.

ومع ذلك وجب عدم المخاطرة في المقارنة بين سياسات الرياض في العراق ولبنان، ذلك أن الروابط مع لبنان لطالما كانت مستمرة متشعبة شاملة لجل التيارات السياسية اللبنانية وإن كان مدخلها منذ اتفاق الطائف جرى من خلال الحريرية السياسية، فيما اتسمت علاقات بغداد والرياض بالتوتر بين بلدين متجاورين ونظامين سياسيين متناقضين، حتى في عهد صدام حسين. وإذا ما شكّلت زيارة الجبير لبغداد في فبراير 2017 انقلابا لافتا في الإطلالة السعودية على عراق ما بعد 2003، فإن زيارة الوزير السعودي المرتقبة لبيروت لا تتسم بالانقلابية بل هي تصويب لمسار شابه ارتباك في السنوات الأخيرة.

اليد السعودية الممدودة إلى لبنان تمثل خطرا على سعي إيران للإطباق الكامل على لبنان وجعله جزءا من طموحات النصر في سوريا

وفيما يزور وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان طهران، تعلن باريس قبل ذلك عن تأجيل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان بسبب “تعارضها مع أجندته”. وإذا كان من تفسير لأجندتي باريس في طهران وبيروت، فذلك أن فرنسا تقود جهودا أوروبية بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة لممارسة ضغوط على إيران لوقف تمددها في المنطقة كما تطور برنامجها للصواريخ الباليستية.

وبينما تسعى باريس لعدم مباركة نظام سياسي في لبنان يعاني من سطوة طهران عبر زيارة رئيسها في هذا الوقت، فإن السعودية التي تمثل رأس الحربة الإقليمي ضد إيران في المنطقة تشعر أن مقارعتها للنفوذ الإيراني في المنطقة تتطلب حضورا كثيفا في العراق ولبنان دون أن يعني ذلك الحضور فتح حرب داخلية ضد إيران في العراق كما لبنان.

والظاهر أن دعوة الحريري للرياض هدفها إعادة تعويم استراتيجيته السياسية في لبنان منذ دعمه لانتخاب الجنرال ميشال عون رئيسا للجمهورية. والحقيقة أن تلك الاستراتيجية لم تكن بعيدة عن الأجواء السعودية لا بل تم اعتمادها بناء على عدم ممانعة من الرياض وربما مباركة لها.

والظاهر أيضا أن مواقف عون-الرئيس في استمراره في الدفاع عن حزب الله وتبرير وجود سلاحه كما تصاعد الحملات التي يشنّها الحزب ضد السعودية كما انكشاف تورطه في أنشطة عسكرية في اليمن تهدد أمن المملكة، أثارت في الرياض غضبا من عقم الاستثمار السياسي، حتى مع الحلفاء، داخل بلد يظهر كل يوم عداوة ضد المملكة ومصالحها.

والظاهر أيضا أن السعودية أعادت تقييم الموقف لجهة اعتبارها أن مواجهة إيران وميليشياتها في المنطقة لا تتم من خلال أدوات سعودية فقط، بل من خلال جهد دولي جماعي بدأت أعراضه تظهر بوضوح في الأشهر الأخيرة.

في هذا أن الرياض تبلّغت مواقف من واشنطن والاتحاد الأوروبي، مخصّبة بتواصل مستمر بين ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يفيد بتصاعد الضغوط الدولية ضد إيران داخل كافة ميادين نفوذها في العراق وسوريا ولبنان، وأن انحسار هذا النفوذ، سواء بالحرب أو بالسلم، يتطلب حضورا عربيا جاهزا لملاقاة أي تسويات مقبلة على المنطقة. وقد لا تبتعد جولة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى القاهرة ولندن وباريس وواشنطن عن روحية الحراك السعودي من داخل المشهد الدولي الجديد.

تبدو السعودية معنية جديا بنسج علاقات صحية مع كافة القوى السياسية اللبنانية ما عدا حزب الله، وتبدو الرياض معنية بتطوير علاقاتها مع الشيعة في لبنان

ولا شك أن سعد الحريري، وعلى الرغم من اللغط الذي دار حول استقالته من الرياض وظروف إقامته في الأسابيع التي تلتها هناك، فإنه انتهج مذاك خيارات سياسية متّسقة مع تفاهمات قيام العهد التي باركتها السعودية، كما أنه تصرف على قاعدة تحالفه مع الرياض والذي، وإن كان مر بما هو ملتبس، يتسم بما يشبه الحتمية التاريخية بين الطرفين.

ولا شك أيضا أن التواصل بين الحريري والسعودية لم ينقطع، وإن كان متوترا، وأن الدعوة التي حملها الموفد الملكي نزار العلولا له لزيارة المملكة لم تكن أمرا مفاجئا له، بل تم التحضير للأمر طويلا، وهو ما يفسر تلبيته للدعوة بعد ساعات من استلامها رسميا في بيروت.

على أن الطبقة السياسية برمتها أخذت علما بعودة السعودية كما بحضورها القادم المكثف على ما يوحي الضجيج حول زيارة الجبير المقبلة. وعلى قاعدة ذلك ستخاض الانتخابات التشريعية ويعلن تيار المستقبل عن مرشحيه دون أن تكون بالضرورة لوائح التيارات الصديقة للرياض موحدة، وعلى هذا أيضا سيعمل الحريري تحت معطى جديد بأنه لن يكون بالضرورة مستقبلا العنوان الوحيد للسعودية في لبنان.

تبدو السعودية معنية جديا بنسج علاقات صحية مع كافة القوى السياسية اللبنانية ما عدا حزب الله. وتبدو الرياض معنية بتطوير علاقاتها مع الشيعة في لبنان، سواء من خلال رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الذي تقصد العلولا إطلاق إشارات مشجعة باتجاهه أثناء زيارته في بيروت، أو من خلال شخصيات شيعية أخرى تناهض حزب الله أو غير قريبة من دوائره. وتبدو المملكة معنية بإعادة إنعاش حضورها داخل البيئة السياسية المسيحية بمختلف تلاوينها، وأن مسألة التطبيع مع التيار العوني حتمية بحكم آليات العلاقة بين القيادة السعودية والرئاسة اللبنانية.

يبقى أن حزب الله ينظر بعين الريبة إلى العودة السعودية المفاجئة بعد أن خيّل له أن أزمة استقالة الحريري أبعدت الحريرية السياسية عن أروقة الرياض. وعلى الرغم من أن زيارة الموفد السعودي وتلبية الحريري لدعوة المملكة لا تعتبران انقلابا فوق العادة في لبنان ما بعد الطائف، فإن منابر الحزب أظهرت نزقا غريبا من خلال الكلام عن “استدعاء” للحريري وعن “وصاية” تود الرياض فرضها على لبنان. بيد أن أجواء الحزب ترى أن اليد السعودية الممدودة إلى لبنان تمثل خطرا على سعي إيران للإطباق الكامل على لبنان وجعله جزءا من طموحات النصر في سوريا التي تطل من خلال الحرب ضد الغوطة الشرقية. كما أن توقيت العودة السعودية يأتي وفق أجندة دولية، يرى الحزب، أن عواصم قد اعتمدتها لوقف تمدد طهران وميليشياتها في المنطقة.