همة العمالة لإسرائيل هي نظام حكم لا مجرد تهمة في التاريخ العربي الحديث.
لذلك في اللحظة اللبنانية الراهنة التي تشهد فيها هذه التهمة حالة ابتذال فعلي علينا أن نلاحظ أن اللبنانيين اليوم ربما كانوا “حزبين” كبيرين: حزب يريد حماية التهمة من “جلْجَأَتِها” وحزب يريد حماية اللبنانيين من تسلّطِ هذه التهمة الدائم عليه معنويا. ومع الاحترام الكامل لمجرى التحقيق الحالي في ملف ما أصبح يُسمّى “ملف عيتاني – الحاج” ربما تكون هذه “التجربة” مفيدة على وجهين: واحد في الحد من التصرف بتهمة العمالة من منطلق عميق أن كل الشعب اللبناني متهم بالعمالة لإسرائيل حتى يثبت العكس! والثاني في إعادة “ترصين” هذه التهمة أمنيا وقضائيا وسياسيا أي لإعادة الاعتبار إليها كتهمة جَلَلٍ.

عادة يصبح كل الشعب متهَماً في أي دولة هي بالنتيجة، كما ثبت أيضا في التاريخ العربي الحديث، دولة فاسدة. ولذلك فإن “حماية” هذه التهمة من مبتذليها ومقتنصيها ومبتزّيها والمتاجرين بها والقامعين باسمها والذين يعيشون عليها ويبنون مِهَناً وقصورا ويحكمون دولا وشعوبا هي مهمة ليس فقط وطنية بل أيضا تحديثية من الدرجة الأولى في “الدول الفاشلة” في التنمية والاقتصاد والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص السياسية والحياتية. الدولة الفاشلة أو شبه الفاشلة هي دولة حكم اللا قانون أولا.
غير أن التحديث هو أيضا حماية لتهمة العمالة لإسرائيل من ابتذالها باعتبار أن الصراع مع “الاختراق” الإسرائيلي هو مستوى رئيسي ودائم من وجوه حياتنا منذ العام 1948.

كيف نوفّق بين هذين الوجهين؟ منع الابتذال ومنع الاختراق، وأكرر هنا، هما المهمة الاصلاحية الصعبة لكل بنية الدولة وليس فقط علاقاتها الأمنية.

لم يقصِّر اللبنانيون، نخبا وجمهورا عريضا، في التصفيق المبني على ارتياح حقيقي عميق لكل إنجاز أمني ولا سيما في موضوع الشبكات الإسرائيلية ناهيك طبعا عن الإنجازات ضد أنشطة إرهابية أخرى.

يجب أن لا يظن اللبنانيون أن التشدد في مراقبة الشبكات الإسرائيلية هو ميزة لبنانية “ممانِعة” هذه الأيام فقط. بل عليهم أن يعرفوا أن الأجهزة الأمنية في دولة مثل مصر التي تقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل كانت ولا تزال شديدة الصرامة في رصد أي سلوك فردي أو أكثر انطلاقا من تقليد راسخ للدولة المصرية بعد كامب دايفيد وهو عدم تشجيع التطبيع مع إسرائيل، أو ما سُمِّي “السلام البارد”، فكيف بالأمن القومي؟

النظام السياسي اللبناني يبدو عاجزا في هذا الجيل عن عملية الإصلاح: إصلاح المديونية العامة وإصلاح الإدارة و”إصلاح تهمة العمالة لإسرائيل” كواحدة من القضايا التي تحتاج إلى معالجة أسوة بالقضايا المالية والسياسية والإدارية وترابطاً معها.

في العشرين عاما الأخيرة ابتُذِلت تهمة العمالة لإسرائيل مرات عديدة لكن “الجلجأة” هذه المرة تحصل بصناعة لبنانية.

في رواية “عيد التيس” لماريو فارغاس لايوسا  لا يكفي الولاء لتكون عنصرا مقبولاً في جهاز حراسة الديكتاتور. يجب أن تقتل بالرصاص بعض أقرب الناس إليك لتكون فوق الشكوك.

“الديكتاتور” في حالة لبنان ليس الشخص بل التهمة. تهمة العمالة.

التهمة تحتاج إذن لإصلاح مزدوج. الحمايةُ من ابتذالها وحمايتُها من الابتذال