من المفترض أن الحملات الانتخابية لم تبدأ رسمياً بعد، ولم تُكشف اللوائح والمرشحون بشكل كامل، لكن "حزب الله" بدأ مُبكراً يُظهر عوارض قلق.

بعد أسابيع على ابداء نعيم قاسم نائب أمينه العام "ارتياحه" انتخابياً، لم يكد يُعلن أسماء مرشحيه، حتى صُدم بموجة انتقادات شعبية، سيما في بلاد جبيل وبعلبك-الهرمل حيث الامتحان الأكثر خطورةً.

في جبيل، تفاجأ الناخبون الشيعة بقرار الحزب تمثيلهم من خارج المنطقة، وتحديداً بمرشحٍ حزبي من البقاع الشمالي. لم يفهم الجبيليون "الحكمة" المفترضة وراء اختيار مرشح لا علاقة له بالمنطقة، وربما وُجِبَ تعريفه بها بجولة سياحية (تردد أن حزبيين محليين رافقوه في جولته الأولى قبل أيام قليلة). ذاك أن الحزب نفسه طارئٌ على بلاد جبيل، ودخلها تنظيمياً في تسعينات القرن الماضي. لذا فإن قرار اختيار قياديين في الحزب، يستثني تلقائياً أبناء المنطقة.

في بعلبك-الهرمل، الغضب والاعتراض مختلف وأعلى وتيرة. المرشحون يتحدرون من المنطقة، لكن غالبيتهم لا تتمتع بالشعبية المطلوبة، بل تُمثل عبئاً على رصيد الحزب وتنظيمه الحديدي وخدماته الاجتماعية. والصدمة الشعبية في بعلبك-الهرمل تفاقمت لأن الترشيحات جاءت مخالفة للتوقعات. على سبيل المثال، توقع كثيرون ترشيح السيد ياسر عباس الموسوي نجل الأمين العام الراحل، وهو يتمتع بشعبية وتقدير واسعين في بعلبك الهرمل.

يفترض المنطق أن إسماً مثل ياسر قادر على وقاية الحزب من أصوات اعتراضية اختبرها في الانتخابات البلدية الأخيرة في البقاع الشمالي. لكن التمسك بمرشحين لا يملكون رصيداً محلياً، يدفع بالحزب إلى فوهة المدفع الانتخابي، ويزيد احتمالات الخرق (هناك توقعات بـ3-4 خروق). لكن لماذا يفعلها الحزب المعروف بتخطيطه الاستراتيجي، سيما أن مثل هذه الخيارات العالية المستوى يحسمها الأمين العام نفسه (وأعلنها شخصياً)؟

الواضح أن هناك ضغوطاً حزبية برزت مؤشرات عليها في الانتخابات البلدية الماضية، وسط تململ داخلي من استبعاد الحزبيين، وبخاصة من يتمتع منهم بشعبية، لمصلحة وجوه محلية ورجال أعمال وحلفاء من خارج الاطار التنظيمي.

وهذا يُفسّر سبب الاتهامات "الاستباقية" التي وجهها الأمين العام للحزب حسن نصر الله ضد منتقدي مرشحيه في هذه الدائرة تحديداً، بإعلانه أن أعداءه يُنفقون منذ سنوات مئات ملايين الدولارات لتشويه صورة القيادات والمسؤولين والكوادر وترويج شائعات عنهم من خلال جيوش الكترونية. لذا نَسَبَ مسبقاً أي انتقادات للأسماء التي أعلنها، إلى "هجمة الكترونية معينة"، وقال إن وظيفة الناس أن يتبينوا لأن "هؤلاء المرشحين هم موضع ثقتنا". كما تحدث عن تركيب لوائح وانفاق من السفارتين الأميركية والسعودية، وكأن عوكر تحوّلت الى غرفة عمليات انتخابية لدائرة بعلبك-الهرمل!

والواقع أن الأصوات السُنيّة في هذه الدائرة (من الفاكهة وعرسال) تبلغ 25 ألف صوت، وقادرة على الخرق وحدها مع بعض التحالفات، فكيف لو استحال الصوت الاعتراضي الشيعي عامل تهديد أساسياً؟ ولو افترضنا صحة الأنباء المتداولة عن أن أحد مرشحي هذه الدائرة من خارج الحزبيين هو خيار الحزب لمعركة خلافة رئاسة مجلس النواب عند استحقاقها. ماذا لو سقط هذا المرشح في هذه الانتخابات؟

كل هذه التساؤلات تُفسّر جزئياً تركيز الخطاب الأخير لنصر الله على بعلبك-الهرمل والتحدي الأساسي فيها.

حتى في دائرتي حاصبيا - مرجعيون - النبطية - بنت جبيل، وصور-الزهراني، يخوض شُبان جدد غمار السياسة ويُشاركون في اجتماعات ونشاطات جنوباً. يُبلور هؤلاء الشبان خطابهم، بالتصويب على الفساد، ومحاولة فصل "المقاومة" عن السياسة. يُراهنون على أن هناك أكثر من مئة ألف ناخب شاب يقترع للمرة الأولى، وفيهم أقلية كبيرة نسبياً تشعر بأنها غير ممثلة. فالحزب والحركة، وعلى رغم وجود كتلة شابة في صفوفهما، لم يُرشحا شباباً، بل يتجاوز معدل أعمار مرشحي الثنائية الشيعية، الخمسين عاماً (انخفض إلى هذا الرقم مع تنحي النائب عبد اللطيف الزين).

ورغم أن أغلب هؤلاء المرشحين الشباب على جانب المعارضة لم يتخذ موقفاً مناهضاً للسلاح، شرع ناشطو الحزب بتخوينهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. واللافت هنا أن هناك منحىً تصاعدياً في ردود أفعال هؤلاء الشبان، إذ بدأوا بالرد أن حماية المقاومة لا تتطلب طرح مرشحين لا يتمتعون بكفاءة أو التحالف مع الفاسدين. لكن مثل هذه الردود قد تزداد حدة وتُبلور منطقاً سياسياً جديداً يُحاكي مواقف بعض القوى المستقلة في دوائر أخرى.

في النبطية، تُعقد اجتماعات لبلورة ائتلاف (وليس تحالفاً) يُمثل كل الأطياف، سياسياً ومناطقياً، على أن يضم ناشطي الحراك المدني والقوى اليسارية كافة. يُحاول "حزب الله" ومعه حركة "أمل" مواجهة هذا التحدي وفقاً للطريقة الآتية:

أولاً، البدء بالنشاط الانتخابي المباشر وشدّ العصب منذ الآن، لذا راج أن رئيس مجلس النواب نبيه بري سيُرابط باكراً في قصره بالمصيلح.

ثانياً، المزج بين تخوين المرشحين والتحذير من مؤامرات، من جهة، والسُخرية والاستهزاء من "المجتمع المدني" وما يُمثله من جهة أخرى، بهدف ضرب أي آمال بفوزه. هكذا بدأت وسائل الإعلام الموالية للحزب والخاضعة لتمويله بنشر تقارير مغلوطة عن تشتت واسع في أوساط معارضي الحزب في الدوائر الجنوبية. في تصريحات مُصورة انتشرت أخيراً، اختزل نعيم قاسم معارضة الحزب بأسرها، بحزب "سبعة"، بالقول إنهم سبعة في الشارع فحسب.

وهذا نموذج من استراتيجيات ذكية اعتمدها الحزب إعلامياً لمواجهة خصومه، ويستمدها من مواجهاته العسكرية بالأصل. السُخرية تضرب معنويات خصمك وجمهوره، فيما يشدُّ التخوين والتخويف والتحذير عصب أنصارك في المواجهة.

والتحدي ضد الحزب ينسحب على مناطق خارج نطاق تنافسه الانتخابي. مثلاً، قوى المعارضة في الشمال تبني خطابها على خصومة الحزب، في حين أعلنت حملة "حدا منا" في الشوف - عاليه حيث الاختراق وارد جداً، موقفاً صريحاً ضد السلاح. حتى حزب "سبعة" الضبابي سابقاً، أعلن بلسان أمينه العام جاد داغر ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، وأن الجيش وحده يتولى مهمة الدفاع عن البلاد.

لا شك في أن الحزب سيحتفظ مع حركة "أمل" بالكتلة الشيعية الأكبر في مجلس النواب، لكن اعتباره "مرتاحاً" في الانتخابات، لم يعد يصح مع كل علامات القلق المتواترة منذ اعلان مرشحيه.