خلال افتتاح مؤتمر منتدى «تعزيز السلم بأبوظبي»، وعندما كان العلاّمة الشيخ عبد الله بن بية رئيس المنتدى يلخّص ورقته التأطيرية قال لي أحد الجالسين بجانبي: الفكرة ممتازة والعرض ممتاز، إنما هل تظن الوقت ملائماً، بأن يتحقق السلم الشامل، وتتقبله نفوس المهجرين والمفجوعين بقتل أحبائهم، وذهاب الاستقرار والعيش الكريم؟! وعندما ألقيتُ كلمتي في اليوم التالي بعنوان: «رؤية إسلامية للسلم العالمي»، وأقمتها على ثلاث مقولات: الرحمة في العلاقة بين الله وعباده، والتعارف بين الناس بعضهم ببعض، ومقاصد الشريعة الخمسة في مشاركة العالم والانفتاح عليه، وفي أخلاق العمل- سارع اثنان من الزملاء ضاحكين إليّ: وهل تظن أحداً سيقتنع بهذه الطروحات الليبرالية، وبخاصةٍ أنّ ديارنا مملوءةٌ بمستنقعات الدم والخراب؟!

إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلةً على الإطلاق. وليس لأنّ هذه القيم ليست جميلة، ولا لأنها ليست من الإسلام؛ بل لأنّ قبول هذا الخير الكثير وهذا الانفتاح المنقطع النظير، يتطلب نفوساً راضيةً ومُرتاحةً، ومنفتحةً على التقبُّل، بحيث يُقبل الجميع على بناء السلم باعتبار ذلك مصلحةً عامةً لهم. أما في هذه الظروف، فإنّ القلق يساور الجميع: من أُصيب، ومن يخشى الإصابة. وهذا فضلاً عن مشاعر الذل التي تخالج الجميع، مما دفع البعض للقول: إمّا أن تقبل المذلة، وإما أن تقبل الموت!

لكن إذا توقفنا عن التفكير في السلم والمصالحة الداخلية، وفي السلم والمصالحة مع العالم، فماذا يحصل؟ أول ما يحصل استمرار الفتك هذا، واستمرارنا في قتل أنفسنا بأيدينا وأيدي العالم. نحن نقاتل «داعش»، و«داعش» يرد علينا، وهناك طرفان آخران يهجمان علينا وعلى «داعش»، ثم يبقى على الجبال الرابضة من حولنا أن ترداهما عنا! وبالطبع لن يتوقف الفتك والتهجير إن طلعنا بأطروحاتنا اليوم أو غداً. لكنّ الطرح الآن فيه مصلحةٌ لديننا، ولاستعادة السكينة فيه. إذ إنّ نظرة العالم، والواقع على الأرض، أنّ الدين يُستخدمُ باعتباره آلةً للقتل أو لتبريره. وما من دينٍ تصبح هذه شيمته، ويستطيع الصمود أو الاستقامة بعد ذلك. إنّ أصل الدين، أي دين، هو في قيامه على الإيمان والحرية. وليس في القتل إيمان، ولا حرية في دينٍ يعتمد القتل أو يُستخدم فيه. وسيقول كثيرون: لكنْ هناك مؤامرة لتصوير الإسلام باعتباره فاعلاً في هذه الجرائم الفظيعة! وعلى فرض التسليم بذلك، أي بالمؤامرة أو التواطؤ، تبقى تلك القابلية للاستخدام، وهذا أمرٌ لا يمكن إنكاره.
كان الإسلام منذ القديم ( لدى البيزنطيين في القرنين الثامن والتاسع مثلاً) موضع اتهامٍ لجهة استخدام العنف في نشر الدين. لكن عندما جاءت الحروب الصليبية بعد أربعة قرون، تبين أنّ أكثر سكان الشام ومصر ما يزالون مسيحيين، لكنّ الدولة عربية أو إسلامية. وهذا لا يعني أنّ العنف من أجل الفتح هو أمرٌ أقل قسوة بل ما أقصده أنّ العنف ما استُخدم في تغيير الدين أو الإكراه على الإسلام!

لكنْ لماذا اللف والدوران؟ لنسأل: لماذا يستشري العنف الآن، كما لم يستشرِ من قبل؟ لثلاثة أسباب: عدم رضا الناس عن بعض الحكومات، والثوران بداخل الدين، والسياسات الدولية التدخلية. وفي المجال الأول هناك عنفٌ عارٍ وفظيع. لكنّ أحداً لا يقول إنه عنفٌ ديني أو يحدث باسم الدين. وصحيح أن العنف السياسي هذا يظل بارزاً؛ لكنّ الثوران بداخل الدين ظاهرة جديدة لا نعرف عنها الكثير، وينبغي الإفادة من دراساتها عند الأميركيين. لا يفيد في شيء أن نسميهم «خوارج العصر»، أي أنهم يقومون بما كان به أهل حروراء يقومون ولا شيء أكثر. وهذا قياسٌ مع الفارق، وأسباب أهل حروراء غير أسباب أهلنا اليوم. ثم إنّ أهل حروراء قتلوا ثلاثةً أو أربعةً، بينما قتل «داعش» الآلاف المؤلفة. وقد كان إمامهم يسمي نفسه أمير المؤمنين، ويقتصر عدد أتباع الخارجي على الثلاثين أو الأربعين، فيخرج بذلك ملايين المسلمين من الإسلام، وهو الذي يفعله «داعش» فيمن يُدعى ولا يستجيب لدعوة الولاء!

إنّ دعوة السلم هي دعوةٌ إلى سكينة القلب والعقل، بحيث تقابل أخاك بوجهٍ بشوشٍ، وتستقبل يومك بالتفاؤل برحمة الله وعنايته. وسكينة الدين مؤديةٌ إلى سكينة الدنيا، وإلى تجدد الأمل فيها. والأمل يحوّل كل أعمالنا إلى مجالاتٍ للإرادة والفعالية، فضلاً عن السعي لصنع الجديد والمتقدم. وقد قضينا السنوات الماضية ونحن نكافح التطرف والإرهاب، وننهى عن المنكر. وقد آن الأوان للدعوة إلى المعروف، لكي يعرف الجميع إلى أين ينبغي الذهاب بعد الخروج من المأزق!

 

 

 

* نقلاً عن "الاتحاد"