اختلفت أنظار المراقبين في طبيعة وأهداف الضربتين الأميركيتين لإيران في العراق. فالمتفائل قال إنها الذروة التي بلغها الرئيس الأميركي في «الحرب» على إيران. وهي حربٌ ذات خطة جيدة تشبه الخطة الأميركية ضد عراق صدام. فقد فرضت الولايات المتحدة عليه الحصار أكثر من عشر سنوات، ثم هاجمته عسكرياً وأسقطت نظامه. ويبدو حسب وجهة النظر هذه أنّ الخطة كانت هي هي: الحصَار والإضعاف ثم الضرب. إنما الفارق أنّ عهد بوش الابن كان يريد إسقاط نظام صدام، بينما الولايات المتحدة في عهد ترمب تريد أن تُجبر النظام الإيراني على تغيير سياساته وسلوكه فيما يتعلق بإعادة التفاوض على النووي، وضبط التسلح بالباليستي، والتوقف عن زعزعة الاستقرار في محيط إيران العربي على وجه الخصوص؛ وإن كانت إيران وبواسطة سليماني تدعم حركة «طالبان» في أفغانستان أيضاً، وربما حركات أخرى في آسيا الوسطى والقوقاز وباكستان! ولذلك يظن هؤلاء أن الضربات ستتوالى حتى تخضع إيران وتصيخ السمع وتجلس إلى طاولة التفاوض، ليس مع الأميركان فقط؛ بل مع دولٍ أخرى عديدة أكثرها عربي، وهي الأشدّ تأذياً من الجمهورية الإسلامية!


وجهة النظر الأخرى متشائمة، أو واقعية، كما تسمي نفسها. وهي تستند في تشاؤمها إلى التاريخ. فمنذ عام 1979 تتخاصم أميركا مع إيران، وإيران في كل جولة من جولات النزاع الطويل تصمد أو تُطاول أو تفوز. ولماذا الانصراف لتعداد الميليشيات الإيرانية أو المتحوِّلة إيرانية، وتُعدُّ بعشرات العشرات في بلدانٍ معظمها سنية؟ فلنذهب مباشرةً إلى عهد ترمب وصراعه مع إيران على الاتفاق النووي وضرورة إعادة النظر فيه، ثم مضايقتها في تصدير نفطها، وفي صناعتها وتجارتها، وحركة مواطنيها، وتعاملاتها المالية مع العالم. ورغم الأضرار البالغة التي وقعت بها من حيث الاقتصاد والمال والهيبة؛ فإنّ مناطق نفوذها ما تصدعت بعد، ولا تصدعت الميليشيات التابعة لها في تلك البلدان. بل إنها ما اكتفت بالصمود، بل انصرفت للتحرش بالملاحة البحرية، وبحلفاء الولايات المتحدة من دول الخليج؛ وذلك عبر أذْرُعِها الميليشياوية، وربما من خلال «الحرس الثوري» مباشرةً. وفيما عدا الحصار الذي لم يكن محكَماً أيضاً؛ فإنّ إيران ما فقدت أصدقاءها، والمقتنعين بأهميتها. فالأوروبيون والروس والصينيون يريدون إنقاذ الاتفاق النووي، والروس والصينيون يصبحون حلفاء استراتيجيين لإيران وكانوا يُجرون معها مناورات بحرية عشية الهجمات الأميركية على حلفائها بالعراق. ثم إنّ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة والذين تضرروا جداً من إيران عبر ثلاثين عاماً، لا يستطيعون معرفة مدى «استراتيجية» الحصار واستدامته. فكل أسبوع تقريباً يقول ترمب إنه سينسحب من المشرق، ومن العراق وسوريا بالذات. ثم إنه لم يُشعر بالاستعداد الثابت للإجابة عن التحرشات الإيرانية في الشهور الأخيرة. وقيل إنه لن يردّ لأنه لن يخاطر بإثارة حربٍ في عام الانتخابات الرئاسية.

 


بيد أن هؤلاء المتشائمين يعترفون بأنهم فوجئوا بالعزيمة المفاجئة لترمب، وهذه الضربات الصاعقة. فقد التهى المراقبون بمقتل سليماني وهو حدثٌ عظيمٌ بالفعل. لكنّ الحدث العسكري الذي سبقه بالإغارة على مراكز «حزب الله – العراق»، خطيرٌ أيضاً. ويمكن أن يفتح الباب على مواجهة أذرُع إيران الأخرى، في بلدانٍ أخرى غير العراق. إنما بعد التعبير عن المفاجأة بهذا التغيير غير المتوقَّع، يعود هؤلاء وأولئك للقول: هي سياسة قصيرة الأمد والنَّفَس، وسيغادر الأميركيون المنطقة في النهاية وتبقى إيران وأطماعها وطموحاتها، فالأفضل عدم الاغترار والمهادنة، والحفاظ على علاقات وثيقة بروسيا والصين باعتبارهما الوسيط مع إيران، والصديق في وقت الضيق!


لا شكّ أنه من بين دول العالم جميعاً، وحتى الكيان الصهيوني؛ فإنّ العرب كانوا ولا يزالون الأكثر تضرراً من سياسات إيران العدوانية. ففي أربع دولٍ عربية تعمل الميليشيات الإيرانية علناً ومن سنوات على التخريب والاستيلاء وحتى التحويل الديني، وتفكيك المجتمعات والدول. وفي دولٍ عربية أخرى تشكل إيران خطراً أمنياً داهماً على الأفراد والسلطات والمرافق، ولذلك تضطر الجهات الأمنية للاستعداد الدائم، إذ بعد الخطر القاعدي والداعشي، والذي لم ينقضِ تماماً، استمر وتصاعد الخطر الميليشياوي الإيراني عبر أَذرُع «الحرس الثوري» من الخارج، أو عبر الميليشيات المشكَّلة بالداخل!

 


ولا يحسبنّ أحدٌ أنّ الدول العربية المتأذية من إيران، «كبَّرت راس» كما يقال، وسعتْ للمجابهة والمواجهة دفاعاً عن أمنها واستقرارها، أو عن أمن شقيقاتها العربيات؛ بل سعت للتفاوض بكل سبيل، وبشكلٍ مباشرٍ أحياناً، وبالوساطة والتوسيط أحياناً أخرى. وقد عاش نظام حافظ الأسد وابنه بشار لأكثر من عشرين عاماً على ابتزاز الدول العربية، باعتباره يمتلك علاقات متميزة مع إيران ويستطيع «استعطافها واستلطافها»؛ وهذا التعبير للرئيس حسني مبارك في اجتماعٍ عام 2008 فيما أذكر.

 


ومنذ سنوات تُصرُّ وسائل إعلامية عالمية كبرى وأخرى شرق أوسطية على أنّ العرب المتضررين من إيران أو بعضهم الذين «أغروا أو أقنعوا» الرئيس ترمب وإدارته بمواجهة إيران، بينما كانوا قد عجزوا عن إقناع أوباما! وبالطبع فإنّ الإدارة الأميركية - أياً تكن آراء وسائل الإعلام المخاصمة لترمب - لا تخضع، وهي الدولة العظمى، للإغراء إذا كان خوض الحرب لصالح آخرين، وإلاّ لكان علينا أن نصدّق أنّ أحمد الجلبي استطاع إقناع إدارة بوش بغزو العراق!

 


إنّ المصالح الاستراتيجية الأميركية هي التي اقتضت المواجهة مع إيران، والتي صارت استقطاباً بعد أن انحاز الروس والصينيون إلى جانب إيران بعض الشيء. وإذا كنا نحن العرب لا نشعر بالتهديد المباشر الآن من النووي الإيراني؛ فإننا جميعاً نشعر بتهديد الصواريخ الباليستية، وتهديد الميليشيات التي تُصدّع الدول، وتخرّب المجتمعات. ولذلك فنحن مستفيدون من إضعاف الميليشيات الإيرانية، وإزالة تغوُّلها عن بلداننا. وهؤلاء الذين قُتلوا في العراق سواء أكانوا من أصول إيرانية أو عراقية، كثيراً ما قَتلوا واغتالوا وهَجَّروا وافتخروا بذلك علناً!

 


ومرة أخرى، إنّ ذلك لا ينبغي أن يدفع أحداً إلى الزعم أنّ الأميركيين إنما يفعلون ذلك بالإغراء أو التحريش. لقد رأوا أنّ مصالحهم الاستراتيجية وهيبتهم تضرّرت كثيراً، نتيجة الاعتداءات المتكررة على سفاراتهم وقواعدهم وطائراتهم... وأجواء وأراضي وبحار حلفائهم. وهكذا تغير التكتيك، فبدلاً من تأمل الانتصار بتجنب الحرب، صار السعي للانتصار ولو بالردع هو الأكثر تقريباً من الفوز بالرئاسة.
كيف تتطور الأمور؟ إذا أصرت إيران على التحرش فستكون هناك ضربات متبادَلة. فهل تكون هناك حرب شاملة؟ هذا أمرٌ مستبعَد، لأن الإيرانيين لا يستطيعونها هم وميليشياتهم، والأميركيون لا يريدونها! أما نحن العرب فلا ينبغي أن نخاف، لأنّ دُعاة الهزيمة الدائمة هم من خوف الموت في موت!