اجتاحت العالم كله، على وقع انتشار وباء كورونا، نهضةٌ دينيةٌ ما أتت هذه المرة من جانب رجال الكنائس والوعاظ، بل من عامة الناس، وقد بلغ من ذُعْر بعض ذوي المراتب الكَنَسية من تعبيرات الذين سَرَتْ في صفوفهم هذه الموجة أن سمَّوها: Fetechism، أي أنها من صنف البدائيات السابقة على الديانات الكبرى، مع أنّ الرموز التي استخدمتها الجماهير في استغاثاتها من الوباء تعبيراتٌ دينية، لقد اندفعت العامة حاملةً رموزها باتجاه الكنائس، التي أُقْفلت في وجوههم بأوامر من من إدارات الكنائس والكاتدرائيات، وبأوامر رسمية. فالتجمعات، سواء داخل الكنائس أو خارجها، اعتُبرت بين أسباب انتشار الوباء، والجميع نصحوا الناس بالبقاء في منازلهم، وهي المرة الأولى منذ العصور الوسطى، التي لا يستطيع فيها المذعورون من الأوبئة أو الغزوات الخارجية، أن يتخذوا من أماكن العبادة ملجأً ليحسُّوا بشيء من الأمن.
 
المفكر الألماني وفيلسوف الدين Otto ذهب في كتابه «المقدَّس»، في عشرينيات القرن الماضي، إلى أنّ الدين الذي اعتُبر منتهياً بسبب تحوله إلى مؤسَّساتٍ ضخمة عمدت إلى «رَوتنة المقدس» واستخدامه، لم ينته في واقع الأمر، لا في أوروبا ولا في غيرها، لأنّ «التدين» غريزةٌ إنسانيةٌ تتجاوز العلمانيات الصاعدة، وبينما انصرف كثيرون وقتها لقراءة عمل Otto قراءةً استطلاعيةً ونقدية، أصرَّ الأكثرون على أنّ الموجة الدينية العامة آنذاك علتُها الهزيمة الألمانيةُ في الحرب الأولى، والاضطراب السياسي بالبلاد، والدليل على أنّ الظاهرة سطحية ومؤقتة، أنه في الوقت نفسه صعدت شعبية الجماعات الاشتراكية والأُخرى الفاشية أو النازية، واستولى هتلر على السلطة أخيراً في انتخاباتٍ حرة عام 1933، تحت شعار: استعادة مجد ألمانيا والرايخ الذي سيبقى لألف عام!
 
ويعود تشخيص أصل ظاهرة الدين في المجتمعات الإنسانية، باعتباره سحراً من نوع ما توشك العقلانية العلمية والعلمانية أن تُزيله، إلى الفيلسوف الألماني كانط، الذي اعتبر التطور الإنساني والغربي على الخصوص سائراً باتجاه نزع سحر العالم، فلا تبقى للدين غير فوائد أخلاقية، والطريف أنّ هذا النقاش كان يخفت ويصعد طوال القرن العشرين، بعد أن أحياه ماكس فيبر (1864-1920) في تحليلاته لسطوة العقلانية الغربية، وغلبتها الساحقة على الأفكار والأعمال، رغم مساهمة «أخلاقيات العمل» البروتستانتية في التطور الكبير للرأسمالية، وأذكر أنّ فيلسوف الاجتماع الديني مارسيل غوشيه، أصدر في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كتاباً بهذا المعنى، رغم أنّ ظواهر الثوران الديني البروتستانتي كانت جاريةً على قدمٍ وساق.
 
وأذكر أنني في العام 2004، وكنتُ عائداً من الولايات المتحدة، ومكثتُ في ألمانيا ثلاثة أيام، اقتنيتُ كتيباً عن نقاش جرى ذلك العام بين الكاردينال راتسينغر (صار بابا الفاتيكان عام 2005 تحت اسم بنديكتوس)، والفيلسوف الألماني الكبير هابرماس بشأن الدين والعقل والعلمانية، ورغم قوة ظاهرة «عودة الدين»، وإسهام الكاثوليك والبروتستانت في إسقاط الأنظمة الشيوعية، فإن البابا المستقبلي ما كان يطمح في النقاش لأكثر من النظر إلى الدين باعتباره خياراً إنسانياً أصيلاً، وبحسب الفلسفة التداولية لهابرماس، ما كان لدى الرجل مانع من الاعتراف بحقّ الناس في خياراتهم الفردية، باعتبارهم مواطنين في دولة دستورية، وباعتبارهم بشراً أحراراً، لكنه لا يرى حاجةً حقيقيةً لذلك، وما يزال ينتمي إلى زمن التنوير وقيمه، وقال له الكاردينال: إنّ مقولة نزع سحر العالم، ليست مقولةً تنويريةً ولا ذات قيمة أخلاقية، وعلى أي حال، لا داعي لهذا الصراع بين الحق والقيمة: الحق في الكرامة بمقتضى القيمة الإنسانية، ومن ضمن الكرامة الحقّ في أن تكونَ ذا دين، وفي النهاية اعتبر الكاردينال أنّ الفيلسوف أنصفه، عندما اعتبر أن الدين يمنح إحساساً بالأمن العميق وليس أكثر، فرد الكاردينال: وما قيمة الحياة من دون أمن إنساني، البشرية لا تريد أكثر من ذلك!