قد يرفض البعض عنوان المقال بدعوى أن الإسلام لا يعيش في عزلة عن الحداثة. ورغم ما تحويه الثنائية الإشكالية من سجال تاريخي قابع على صدور العرب والمسلمين، منذ الصدمة الأولى التي أدت لإقصاء المعتزلة عن دائرة الضوء، وما أنتجه هذا الوأد من ارتكاسات جرحية مستديمة، طاولت العقلانيين في الماضي والحاضر، لكن الإسلام التاريخي لم يكن بمنأى عن التحديث المنشود داخل دوائر ضيقة، يمكن الكشف عنها عبر النتاج الفلسفي والعلمي، الذي قدّمه علماؤنا الكبار وفي طليعتهم ابن رشد وغيره من مؤسسي العقل النقدي.
وإذ نفترض أن الإسلام مرّ ويمرّ في حال من المواجهة الدورية مع الحداثة، إذا ما وضعنا الفرضية في مسارها التاريخي الطويل، تجبرنا الظواهر القديمة/ الجديدة، تحديداً المسارات المتعرجة والنكوصية التي آلت اليها الفورات العربية، على القول، إن ثمة تزاحماً محموماً بين عالمين منشطرين، الأول، أسطوري/إسلامي بما تتضمنه الكلمة من أبعاد مجتمعية وسياسية ودينية؛ والثاني، علمي/ غربي تجاوز اللاهوت الإصلاحي وبات اليوم في حقبة لاهوت ما بعد الحداثة، بعدما خاض معاركه التنويرية الكبرى بدءاً باللوثرية، وما عكسته من انزياحات جذرية في العمق الأوروبي القروسطي، وذلك حين كان المسلمون في ذروة الضوء الحضاري. فهل نحن بإزاء شرق أسطوري/ ماضوي وغرب علمي/ مستقبلي؟
لا يمكن لأي بؤرة حضارية أن تبقى في كبوة أبدية، الإنسان بطبيعته يتطلع الى الأفضل؛ الحياة لا تسكن الماضي بل المستقبل، وبهذا المعنى من المهم الاستعانة بالمعادلة التي اقترحها أدونيس والتي تقول «لا يمكن قيام ثورة دون الإسلام، ولكن يجب أن يحدث أولاً ثورة في الإسلام».
وضعنا صاحب «الثابت والمتحوّل» أمام صدمة تبدو للوهلة الأولى كما لو أنها تعجيزية. وإذا عدنا الى الطروحات الهامة الذي قدمها المصلحون الأوائل، وأقصد على وجه الدقة، المعتزلة، الذين جاهدوا في سبيل انتصار العقل، وشكلوا أوْلى الدوائر العقلانية المتصدية للذهنية النصوصية، وهزموا لاحقاً لمصلحة سلطة جبرية، امتدت من الديني الى السياسي فالثقافي، يمكن اعتبار هذه الهزيمة ـ هزيمة العقل ـ أول صدمة معرفية/ نقدية تلقاها الإسلام. والجدير بالذكر أن المعتزلة عالجوا مسائل أساسية، وأنتجوا منهجاً عقلانياً نقدياً، فهم طرحوا مسألة خلق القرآن، واتخذوا مواقف يمكن نسبتها إلى الحداثة، ومن الناحية العملية فإن الفكر المعتزلي أصبح المذهب الرسمي للدولة في عهد الخليفة المأمون.
وقد يقول قائل إن الفكر التنويري بعد هذه العزلة لن تقوم له قائمة، لكن الوقائع التاريخية تشي بالعكس، فقد شهد المسلمون وما زالوا عملية ارتجاج معرفية، تأرجحت بين التحديث والتقديس، أي بين العقل النقدي والعقل الأسطوري، فكيف نفسر السعي الدؤوب باتجاه الإصلاح والحداثة، الذي تكرس في النهضة العربية الأولى التي تصدّرها أئمة إصلاحيون، وعلماء عقلانيون، وها هي تستكمل تدرّجها مع دخول المسلمين والعرب في النهضة العربية الثانية التي درسها الفيلسوف ناصيف نصار.
حين طُلب من فؤاد عجمي (اللبناني الأصل) التعليق على أطروحة هنتنغتون «صدام الحضارات» قال ما ما معناه «الإسلام ليس خطيراً لتشرذمه وانهياره وسقوطه في وجه عواصف الحداثة»، ومعلوم أن عجمي كان من بين المقربين الى المحافظين الجدد في مرحلة جورج بوش الإبن، وهو في طرحه هذا يقترب من المستشرق أرنست رنان الذي تنبأ أن الإسلام سيضمحل حتماً نتيجة لانتشار وتقدم وانتصار العلم الأوروبي الذي لا يُقهر.
وبعيداً من الأفكار الغربية التي أسس لها الاستشراق الكلاسيكي الذي ترك تأثيراً في مجمل الدراسات الشرق أوسطية الراهنة، خصوصاً تلك التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2011. تفرض المتغيرات التي شهدها التاريخ الإسلامي (الذي لم يستكن بسبب الحركات الثورية التي عرفها كثورة القرامطة والزنج والخوارج وغيرها) ومن ضمنها نكسة الربيع العربي (بعدما استولى الخط السلفي ـ الإخواني على الثورات) ضرورة إحياء إسلام الحداثة، ومتابعة الانعطافات المطلوبة التي أرساها العلماء الكبار من رواد الإصلاح الأوائل ومن تلاهم، والتأسيس أيضاً الى توحيد الوعي الإسلامي، أو ما يسمّيه محمد أركون «التراث الإسلامي الكليّ» الذي يقلّص الانقسامات المذهبية المتفاقمة التي نعاني منها اليوم وبشكل غير مسبوق وسط الحديث عن صراع سنّي ـ شيعي.
لقد مرت المسيحية الغربية في مراحل صدامية متعاقبة، الى أن تصالح الإنسان مع العقل، والدين مع العلم. وها هم المسلمون شهدوا ويشهدون حالاً من الصدام مع الحداثة، فكيف يمكن تجاوز الانغلاقات اللاهوتية؟
إشكالية تبدو الى حد ما محبطة إذا مـا نظـرنا الى أرض الواقـع، لكن التاريخ المضيء في الإسلام الغابر والحاضر، يسـاعد على تكثـيف مساحات التفاؤل، وإن كانت الحداثة أسيرة الإنتلجنسيا التنويرية العربـية، ولـيس لها فاعليـة في المجتـمع والدولـة والدين، وهذا لا ينفي إمكان تثوير العقول. وتتطلّب هذه الخـطوة هـيكلة معاهد الدراسات الإسلامية التي ما زالت تخرّج أجيالاً من المتشددين، ولا ضير إذا أُدخلت الى هذه المعاهد مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة كاللسنيات والإنتروبولوجيا وعلم الأديـان المـقارن وغيرها من أدوات البحث. والتشديد على الإصـلاح من الداخل يشكل أسّ العملية الإصلاحية، وليس المطلوب القطع مع ما قدمه الفقهاء المتقدمون (أو الإسلام الفقهي إذا جاز التعبير) وإنما التفكيك، والقراءة الهادئة، وإعادة البناء. وهذه القفزة تحتاج أيضاً لاستحضار الخلاصات التنويرية التي أتى بها الفلاسفة المسلمون، دعاة عقل، لتدريسها في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات، لنقول للجميع ها هو إسلامونا الرشدي قد سبق الغرب في معركة الحداثة.
لا ريب في أن البدواة التي تعاني منـها المجـتمعات العـربية، تـركت وتترك آثاراً هائلة على البنى كافة، ومن ضمنها بنى المقدس؛ إذ لا يمكن الانخراط في التحديث الديني بمعزل عن الحـداثة السياسية التي تنهض على تداول السـلطة والمـواطنة ودولـة القانون، وما ينطـبق على السـياسي ينطبق على المجتـمعي والديني.
الحداثة الدينية مسألة ملحّة لأن الإسلام يدخل في تفاصيل حياة الأفراد والجماعات. ومن المهم الاعتماد على التأويل الحديث لاستنطاق النص القرآني ـ الذي يحمل هوية قارئه ـ المؤهل بدوره الى تقديم تأويلات جديدة، تتخطى الحدود التي رسمها النصوصيون. ولو قُرِئَ القرآن بعين الحداثة، وضمن المساحة الرحبة المتعددة الجوانب، لأمكن الخروج بخلاصات تجيب عن التساؤلات التي يطرحها المسلمون عن ذواتهم ومحيطهم.
أي نص ديني مفتوح، حمّال أوجه إذا ما اقترن بالعقل النقدي/ التفكيكي الواعي لأهمية الثورة من داخل الدين؛ والقرآن من أكثر النصوص الدينية المطالبة بإعمال العقل؛ «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»!