قبل أكثر من ثلاث سنوات تقريباً وقبل أن يتضح مخطط التهجير المنظم للسوريين من بلدهم، قال لي أحد الباحثين السوريين المرموقين إننا مقبلون على ما أسماه بهندسة سكانية ديمغرافية مبرمجة يشارك فيها النظام السوري نفسه لإفراغ سوريا من سكانها المسلمين وإعادة رسم الخارطة السكانية في سوريا خدمة لمصالح داخلية وخارجية متشابكة. لكن بصراحة ظننت وقتها أن الأخ جورج يهرف بما لا يعرف، أو أنه غارق حتى أذنيه في نظرية المؤأمرة، إلا أن الأيام أثبتت أن ما قاله جورج قبل أكثر من ثلاث سنوات أصبح حقيقة تفقأ العيون بشهادة رأس النظام السوري نفسه، وفيما بعد على لسان أحد أشهر ضباط الحرس الجمهوري العميد عصام زهر الدين.
لم نعد بحاجة لبراهين وأدلة كثيرة كي نتأكد من أن جهات عديدة تعمل معاً على تهجير السوريين من بلدهم بتواطؤ لا تخطئه عين من رأس النظام وكبار مسؤوليه. لقد كان أول تلميح صريح للقصة على لسان بشار الأسد نفسه عندما قالها صراحة: إن سوريا ليست لمن يحمل جنسيتها بل لمن يدافع عنها. وبما أن ملايين السوريين نزحوا داخلياً أو لجأوا إلى الخارج خوفاً من البراميل والقصف الأسدي والروسي والإيراني، فهذا يعني في عرف رأس النظام أنهم خونة وعملاء، وبالتالي لم يعد لهم مكان في سوريا لسبب بسيط، وهو أنهم لم يتحملوا براميل الأسد، أو أنه كان لزاماً عليهم أن يبقوا في سوريا لحماية عرش النظام المتداعي في دمشق، وبما أنهم تركوا سوريا للحفاظ على حياتهم، فقد أصبحوا غير مرغوب بهم الآن في سوريا، وصارت بيوتهم وأملاكهم حلالاً زلالاً على الميليشيات الأجنبية التي تحمي النظام القادمة من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وكوريا الشمالية وباكستان. وقد لاحظنا أن النظام أوعز لشبيحته وكلابه منذ اليوم الأول بالاستيلاء على أملاك وأرزاق السوريين المعارضين أو حتى الهاربين من جحيم الحرب، فهو لم يكتف بتهجيرهم وتدمير أملاكهم أو مصادرتها، بل عاقبهم بالمنع من العودة إلى وطنهم.
ولمن ظن أن تصريح الأسد الأول بأن سوريا لمن يدافع عنها كان عابراً فهو مخطئ، فقد تحدث الأسد لاحقاً إلى صحيفة صربية قائلاً إن سوريا غدت أكثر صفاء، وهو يقصد أن سوريا أصبحت أفضل بعد تهجير نصف سكانها من المسلمين حصراً. ثم وضع الأسد النقاط على الحروف دون أن يرمش له جفن عندما قال إننا ربحنا من الحرب مجتمعاً متجانساً، وهو يقصد بذلك أنه يريد لسوريا الجديدة أن تكون من الموالين فقط، وخاصة أبناء الأقليات، وليذهب نصف الشعب السوري من اللاجئين والنازحين إلى الجحيم.
ولم يتأخر الضابط الكبير في الحرس الجمهوري عصام زهر الدين حتى كرر حرفياً وبلغة ليس فيها أي لبس بأن النظام لا يرحب بعودة أي لاجئ سوري. وقد أثار تصريح زهر الدين جدلاً كبيراً عندما هدد ملايين اللاجئين بالقتل إذا فكروا بالعودة إلى سوريا، وبأنه والشبيحة سيحاسبون اللاجئين حتى لو قبلت الدولة بعودتهم. ولو لم يكن لدى زهر الدين الضوء الأخضر لما قال ما قال بشكل صارخ. وحتى عندما تراجع عن تصريحه لاحقاً، فإن السوريين جميعاً باتوا يعرفون أن زهر الدين يمثل وجهة نظر النظام الذي يرفض عودة اللاجئين السوريين كما رفضت إسرائيل عودة اللاجئين الفلسطينيين.
والغريب في الأمر أن تصريحات بشار الأسد وزهر الدين تتلاقى بطريقة عجيبة مع تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما طلب من الدول التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين بأن تقوم بتوطينهم، مما يعني أن عملية تهجيرهم من سوريا كانت منظمة وممنهجة بالاتفاق مع النظام لتفريغ سوريا من سكانها المسلمين.
واضح تماماً أن صمود الأسد حتى الآن ليس بقوة نظامه، بل لأنه على ما يبدو ينفذ مهمة دولية تتمثل في إعادة رسم الخارطة السكانية لسوريا خدمة لمشاريع خارجية كبرى.

 

د. فيصل القاسم