خلافاً لكل ما يتردّد من تفسيراتٍ وتأويلات، فإنّ زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان لبيروت، ليست بنتَ ساعتها، أو فرضَها الحراكُ الديبلوماسي الإيراني الملفت في اتّجاه لبنان، وإنما هي في سياق الصفحة الجديدة التي فتحتها المملكةُ العربيةُ السعودية في العلاقة بينها وبين لبنان وستعزّزها بتعيينِ سفيرٍ جديدٍ لها في لبنان قريباً، ولا تستهدف شدَّ أزر فريق لبناني وإهمال آخر، وإن كان بعض الأفرقاء يحاول إلباس الزيارة هذا اللبوس
 

يؤكد كثيرون أنّ زيارة السبهان لبيروت تكتسب أهمية بالغة ستظهر في قابل الأيام والأسابيع، فهي كانت مقرّرة قبيل شهر رمضان وأُرجِئت في اللحظة الاخيرة، مع العلم أنّ هذا الرجلَ الخبير في الشأن اللبناني كان غائباً في الجسد عن لبنان الذي خدم فيه سنواتٍ في السلك الديبلوماسي العسكري، ولكنه كان حاضراً في ضوء متابعته اليومية لما زرعه في زيارتيه السابقتين، الأولى كانت بعد أشهر على تعيينه وزيراً وقبيل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية والثانية كانت في عزّ البحث اللبناني في قانون الانتخاب لإجراء انتخابات نيابية أُرجِئت للمرة الثالثة وسُمّيت «التمديد الثالث» للمجلس النيابي الحالي.

وفي هاتين الزيارتين عقد السبهان مروحةً واسعة جداً من اللقاءات والاجتماعات مع المسؤولين الكبار وكذلك مع قياداتٍ وفعالياتٍ سياسية من مختلف الأطياف السياسية اللبنانية.

وأكد خلالها حرصَ المملكة العربية السعودية على العلاقة التاريخية التي تربطها بلبنان، وكذلك حرصها على عروبته وعلى الوفاق بين اللبنانيين، وقد جاءت زيارةُ الموفد الملكي السعودي الأمير خالد الفيصل لبيروت والتي سلّم خلالها عون دعوةً رسمية لزيارة الرياض لتدشّن الصفحة الجديدة من العلاقات التي كان السبهان أسس لها في خلال زيارتيه اللتين سبقتا زيارة الفيصل.

ويقول بعض المطلعين إنّ زيارة السبهان الأولى أعقبهتا التسوية التي حملت عون الى سدة رئاسة الجمهورية، وإنّ زيارته الثانية والتي لامس فيها موضوع قانون الانتخاب الجديد في مجموعةٍ من لقاءاتٍ عقدها مع معنيين ومتخصّصين استفسر فيها واستطلع كنهَ مشاريع القوانين الانتخابية التي كانت مطروحة وإمكانية التفاهم على أيّ منها، وقد تكون ساهمت لاحقاً في إنتاج القانون الانتخابي الذي يُفترض أن يُجرى بموجبه انتخاب مجلس نيابي جديد في أيار 2018 إذا جرت الرياح وفق ما تشتهي السفن.

لكنّ هؤلاء يقولون إنّ لزيارة السبهان الحالية أبعاداً أهم واعمق ممّا تحقق إثر الزيارتين السابقتين من «إنجازات»، وإنّ البعض يُخطئ عندما يربطها بزيارة مساعد وزير الخارجية الإيرانية لشؤون الشرق الاوسط وشمال افريقيا حسين جابري انصاري ويتحدّث عن «مزامنة سعودية مقصودة» مع زيارة الديبلوماسي الإيراني، فهي كانت مقرَّرة سابقاً والتزامن لم يكن مقصوداً، لكنّ البعض تحدّث عن هذا التزامن لأنها تحصل في ظلّ كلام إيجابي من هنا وهناك عن حراك ديبلوماسي سعودي في طهران ومثله في الرياض واحتمال تطوّر التواصل الذي حصل بين البلدين حول شؤون الحجيج الإيراني الى حوار جدّي وعميق بين البلدين في ضوء مساعٍ ووساطات عُمانية وكويتية جارية في هذا الاتجاه.

على أنّ المطّلعين أنفسهم يؤكدون أنّ هذا المناخ الإيجابي الى حدٍّ ما المستجد في الفضاء السعودي ـ الإيراني، إنما يأخذ في الاعتبار التطوّرات الجارية في المنطقة في ضوء ما يُحكى عن توافقاتٍ أميركية ـ روسية حول مشاريع حلول للأزمات الإقليمية التي لا يخفى على أحد انغماس مجمل الأفرقاء الإقليميين فيها والذين سيكونون شركاء جميعاً في صيرورة هذه المشاريع الى التنفيذ.

ويقول المطّلعون إنّ الرياض لا تُنافس طهران في لبنان، لأنّ وجودها ومصالحها فيه سابقة لوجود طهران ومصالحها فيه، وهو وجود ضارب منذ تأسيس المملكة وشراكة بعض اللبنانيين فيه من أمين الريحاني الى حسين العويني وغيره ممّن بنوا مداميك أساسية في بنيان العلاقة اللبنانية – السعودية، وهذه العلاقة انطلقت في صفحة جديدة تأخذ في الاعتبار الحاضر ومتطلباته من دون أن تتنكّر للماضي وهذه الصفحة فُتحت إثر تولّي خادم الحرمين الشريفين مقاليدَ العرش الملكي خلفاً لشقيقه الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، ويرعاها وليّ عهده ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية عادل الجبير والوزير السبهان وصولاً الى رئيس البعثة الديبلوماسية السعودية في بيروت والوزير المفوّض في الخارجية السعودية وليد البخاري، الذي يدأب منذ تولّيه مسؤولياته على عقد لقاءات ومنتديات تعكس طبيعة الصفحة الجديدة في العلاقات مع لبنان وتترك أصداء إيجابية لدى الرأي العام اللبناني وحتى في الرياض.

واللافت أنّ السبهان يُبعد اللقاءات التي يعقدها عن الاضواء الإعلامية ويستعين على قضائها بكثير من الكتمان، ويؤكد المطّلعون أن لا علاقة لزيارة الرجل بما يصدر من بيانات تعبّر عن قراءة خاطئة لدى اصحابها للتطوّرات الإقليمية الجارية، والإيحاء أنّ هذه البيانات تتماهى مع الموقف السعودي. والملاحَظ حتى الآن أنّ لقاءاتِ السبهان لم تقتصر على طيفٍ سياسيٍّ واحد وهي ستشمل الجميع، باستثناء حزب الله، وأبرز الذين التقاهم الى الآن، الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط ورئيس «التيار الوطني الحر» ووزير الخارجية جبران باسيل، ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل، ومن المؤكد أنه سيلتقي كثيرين وفي مقدّمهم رئيسا الجمهورية والمجلس النيابي ومجمل القيادات السياسية وربما المرجعيات الدينية البارزة، وهذه اللقاءات تؤكّد توجّهَ المملكة الى تعزيز علاقتها مع جميع الأطياف اللبنانية.

فالرسالة التي حملها السبهان سابقاً وربما يحملها الآن مفادها أنّ المملكة لا تعتمد أيّ حصرية في علاقاتها اللبنانية وإنما تريد أن تكون علاقاتها عابرةً للاصطفافات السياسية الداخلية اللبنانية، وعابرة أيضاً حتى للاصطفافات الطائفية والمذهبية، وقد دلّ على ذلك الانفتاح على قيادات سياسية كان بعضها ينتمي أو يُصنَّف في خانة فريق 8 آذار، وكذلك الملتقيات الثقافية التي يقيمها الوزير البخاري في بيروت والتي كان من أبرزها الملتقى حول «الامام موسى الصدر: نهج اعتدال»، والملتقى مع العشائر اللبنانية العربية ذات التنوّع الطائفي والمذهبي، والملتقى حول الأمير شكيب أرسلان وهناك على جدول أعمال البخاري مجموعة منتديات ستُعقد لاحقاً وتتناول قيادات وشخصيات إسلامية ومسيحية كانت لها بصماتُها في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، وكذلك في تاريخ العلاقات اللبنانية ـ السعودية.

ولذلك، يرى المطّلعون أنّ البعض يخطئ عندما يدرج مهمة السبهان الجديدة في بيروت في إطار إحياء اصطفاف معيَّن، فيما الغاية في جانب أساسي منها تأكيد ثوابت التوجّهات السعودية الجديدة إزاء لبنان، وفي الجانب الآخر الوقوف على حقيقة التفاعل اللبناني مع التطوّرات الإقليمية الجارية على مساحة المنطقة، فضلاً عن استطلاع الموقف من المرحلة الجديدة التي سيدخلها لبنان بعد تحرير جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع والفاكهة من تنظيمَي «داعش» و«جبهة النصرة»، وهي مرحلة ستتصدّرها الانتخابات النيابية التي ستُنتج طبقةً سياسيةً لبنانيةً جديدة.

على أنّ البعض لا ينكر أنّ المملكة وفي ضوء توجّهاتها الجديدة إزاء لبنان لم تتخلَّ عمَّن يسمون أنفسهم حلفاءها الآن أو في ما مضى، على رغم خيبتها من بعضهم، ولكنها في الوقت نفسه خرجت الى الفضاء اللبناني الأرحب وباتت تنظر الى هؤلاء نظرتها الى الآخرين من حيث إنها تريد أن تكون على علاقة طيّبة مع الجميع باستثناء بعض الأفرقاء الذين يسود بينها وبينهم توترٌ وقطيعة، وربما تنازع، على خلفيّة بعض الأزمات والنزاعات الإقليمية، ولكن حتى هؤلاء يمكن أن يأتيَ يومٌ ويتمّ تطبيع العلاقات بينها وبينهم، خصوصاً إذا تُرجم ما يُحكى حالياً عن وساطات وتواصل حاصل أو سيحصل بين المملكة وخصومها الإقليميين حواراً وتوصّلاً الى توافقاتٍ على حدود النفوذ والأدوار والمصالح في المنطقة، لأنّ ما مِن حروب تستمرّ الى أبد الآبدين، وإنما تنتهي عادةً بتسوياتٍ واتفاقاتٍ مهما طالت.