لا مفرّ من السؤال ماذا يفعل سعد الحريري؟ اتهامات كثيرة توجه إلى رئيس الحكومة، منذ إبرامه التسوية مع التيار الوطني الحر. لكنه لم يتراجع، أو لم يجر أي مراجعة نقدية لسياسته. قد يكون الرجل أخبر بما لديه وما يملي عليه التحرك وهذه الخيارات، لكن لا بد من السؤال ماذا يفعل؟ منذ أكثر من خمس سنوات يجد الحريري نفسه متروكاً سياسياً ومالياً، وحتى معنوياً. كانت الثورة السورية متنفّساً للحريري. وقد بُنيت آمال كبيرة عليها لتعيد إنتاج المنظومة الحكمية في لبنان، لكن الثورة تحولت إلى حرب طاحنة، خيّبت الآمال فيما بعد.

عاد الرهان على التكتيكات السياسية، التي أنتجت التسوية الرئاسية الكبرى، بحكم الواقعية. واليوم، قد يكون حكم الواقعية هو ما يُعيد تطبيع العلاقات مع النظام السوري، لكن ليس برضى الحريري أو بغطاء منه كما يعتبر المستقبليون. ثمة من يعتبر أن اليوم أعيد إنتاج التركيبة القديمة، وبأن الحريري وتحالفه مع الرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل، أعاد احياء معادلة الحكم والإقتصاد في الداخل لهما، فيما السياسة الخارجية والحدود والحروب من اختصاص حزب الله. هي التركيبة القديمة التي أرساها الرئيس رفيق الحريري، الحكم والإقتصاد له، والسياسة الخارجية والعسكر للنظام السوري.

يحاول المستقبل تخفيف الخسائر السياسية والمعنوية والإعلامية التي يمنى بها. ويعتبر أنه ليس من الصحيح اعتبار حزب الله مسيطراً على البلد بكل مقدراته، بل هناك تركيبة هي التي تحدد مسارات الأمور السياسية والمالية في الدولة ومؤسساتها. وهذا ما يهمهم في هذه الفترة. لا يعيرون اهتماماً لأي من الحروب الحدودية والإقليمية التي يخوضها حزب الله. يعتبرون أن هذه مرحلة، ولا بد أن تمرّ. ولذلك يجب تخطّيها بأقل الخسائر الممكنة، وبتعزيز موقعهم في الدولة ومؤسساتها.

حين حكم رفيق الحريري، اضطر إلى تطبيع العلاقات مع السوريين في لبنان ومع حزب الله كمقاومة. هذه المعادلة وحدها التي سمحت للحريري الأب حكم البلد وتنظيم إقتصاده وسياساته الداخلية، مع شركاء هم أبرز الحلفاء لدمشق. واليوم، هناك من يعتبر أنه كي يستطيع الحريري الابن أن يحكم ويستمرّ رئيساً للحكومة، لا بد من تطبيع العلاقة مع حزب الله، والاستثمار في ما يسمونه ربط النزاع معه، على قاعدة الفصل بين الشؤون الداخلية التي يتولاها الحريري وحلفاء الحزب، فيما تخصص السياسة الخارجية، أو القرارات السيادية والحرب والسلم لحزب الله. غير ذلك، لا يمكن للحريري أن يستمرّ في السلطة والحكم. فالافتراق الاستراتيجي الأول وحتى سياسي بين الحريري الأب والسوريين أدى إلى اغتياله. والأمر نفسه تكرر مع الحريري الابن حين تعرّض للاغتيال السياسي أكثر من مرّة، حتى استدرج إلى التنازل والتطبيع.

في الوقت الذي كان الحريري يطالب بشطب بند زيارات الوزراء إلى سوريا من محضر جلسة الحكومة، كان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يعقد مؤتمراً صحافياً يتخذ خلاله مواقف تصعيدية، معتبراً أنه لا يمكن التنسيق مع النظام السوري أو مع حكومة سورية غير موجودة وغير شرعية، ولا يمكن للبنان أو لبعض الأفرقاء أن تستعجل لإعادة تعويم النظام السوري الغارق في دم أبناء سوريا. موقف جعجع هذا وصفه كثيرون بأنه جريء وتخطّى كثيراً مواقف الحريري المهادنة. لكن المستقبل يضع ذلك في خانة توزيع الأدوار بين الحليفين، لأن الحرري كرئيس للحكومة لن يكون قادراً على اتخاذ قرارات أو مواقف تصعيدية من شأنها تفجير الحكومة، فيما جعجع سيكون قادراً على ذلك. ويهمس المستقبليون بأن هذا التوزيع للأدوار جرى البحث به خلال زيارة الحريري الأخيرة إلى معراب.

يرفض المستقبل منطق هزيمة محور وانتصار آخر، ويعتبر أن الأمور تغيرت كثيراً عن العام 2011، فحكومة الرئيس نجيب ميقاتي كانت تؤكد الحضور السوري الساحق في لبنان. أما اليوم فهناك توازن، ويجزم مستقبليون بأن حزب الله لم ينتصر، لكنه يحاول استعجال إعلان الانتصار مدعوماً بماكينة إعلامية كبيرة وفعّالة. وهذا ما حاول استثماره في معركة جرود عرسال، التي أعلن الانتصار فيها، علماً أنها حصلت بناء على تسوية ومفاوضات، وهو اضطر إلى خوضها لأجل التغطية على تحجيمه في سوريا، وإبعاده وإيران عن الجنوب السوري.

لا يزال المستقبل يتمسك بأمل تحجيم نفوذ إيران وحزب الله في سوريا، ويعتبر أن بشار الأسد لم ينتصر. فسابقاً كان حاكم سوريا بكاملها ولبنان بأسره، أما اليوم، ففي سوريا، إيران، تركياً، روسيا، والولايات المتحدة، ومسار انحسار الأسد وإيران سيستكمل مستقبلاً طيلة عهد دونالد ترامب. يقول المستقبليون ذلك مستندين إلى الرهان على الوقت، وربما الانتظار على ضفّة النهر.